(الشعر إزميل يحفر في المعاني)

ـ د. نجمة حبيب

حفّزتني مقولة الشاعر والقاصّ والناقد جاد الحاج “شعره إزميل يحفر في المعاني” على إعادة قراءة ديوان “ضوء آخر” للشاعر شوقي مسلماني، فكان أوّل ما حضرني قول الجرجاني: “إذا أتاك ـ النصّ ـ ممثّلاً فهو في الأكثر يتجلّى لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة وتحريك الخاطر له والهمّة في طلبه. وما كان منه ألطف ـ أكثر غموضاً ـ كان امتناعه على القارئ أكثر وإباؤه أظهر واحتجابه أشدّ. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالميزة أولى وكان موقعه من النفس أجلّ وألطف وكانت به أضن وأشغف”: “مِن مكانٍ وفي زمان \ بدأتْ قطرةُ الدمّ تدخل في طورٍ أوّل \ وتماماً مثلما هذا يسبح وذاك يركض \ وهؤلاء يطيرون وأولئك يزحفون \ وما بين الكلّ من تبادل في الأدوار \ لأنّ القسوة ولأنّ الرقّة \ واليوم الأوّل يحمل في أحشائه اليومَ الأخير \\ من مكان وفي زمان \ الموتُ أطلَّ أوّلاً \ وهذا من أسباب تسلّطه بهمجيّة \\ وكلّما اقتربَ ابتعد وكلّما ابتعدَ اقترب”.
إنه نصّ مكثّف الصورة، يلمّح ولا يصرّح، يغري الخيال بتعقّب صوره، فما أن يستقرّ الذهن على تأويل ما حتى يعقبه تأويل آخر ينقضه أو يعزّزه دون الإتاحة لوضع الاصبع على معنى محدّد. إيماءات بسيطة “بدأت قطرة الدمّ.. الموت أطلّ أوّلاً.. وكلّما اقترب ابتعد..” تبطن تساؤلاً وجودياً حول العلاقة الجدليّة بين الخلق والفناء. ورغم أن ظاهر اللفظ يوحي بالتقريرية وانغلاق المعنى فإنّ تداعياته منفتحة على عدّة تأويلات، فقد يستدعي القرّاء مقولة سارتر الوجوديّة: “ليس بمستطاع الله ولا الطبيعة البشريّة ولا الوجود ولا علم الأديان ولا حتى الفلسفة أن تجيب على الأسئلة الأساسية للوجود، بينما يستدعي آخرون عبثيّة المعرّي في قصيدته “تعبٌ كلّها الحياة” ـ البيت الأول من القصيدة: “تعب كلّها الحياة فما أعجب إلاّ من راغب في ازدياد” بافتتاحية مسلماني: “من مكانٍ وفي زمان / بدأت قطرة الدمّ تدخل طورها الأوّل”. وفي فقرة: “الموتُ أطلَّ أوّلاً.. وكلّما ابتعدَ اقترب” استدعاء لما سمّاه الروائي الجزائري البير كامو بسخافة العالم.. وتحفّز الثنائيّات المتضادّة: “يزحف / يركض”، “الأول / الأخير”، “القسوة / الرقّة”، ثنائيّات تختصر نظريات فلسفيّة من ديانات وحضارات قديمة كمثل النّار والتراب، الخصب والموات، الخير والشرّ، الجنّة والجحيم، العقاب والثواب.. وقد يذهب الفكر بعيداً صوب جدال المدرستين “القدريّة” و”الجبريّة”. وشخصيّاً رحلتْ بي الذاكرة مع عبارة “اليوم الأوّل يحمل في أحشائه اليوم الأخير” إلى أيّام الطفولة يوم لقّننا “الواعظ الديني” ما أرهب طفولتنا: “تذكّر يا إنسان أنّك تراب وإلى التراب تعود”.
“الشرارةُ \ حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف.. \ تاجٌ على هامةِ جليلِ التراكم \ وجليلِ النوع \ الرأسُ كما أراه جهةٌ للاستعداد \ جهة لتسجيلِ هيئةِ الحقيقي \ وليس الذي يعبر سريعاً \ جهةٌ تنظر بعينين \ ذات قدرة على القطْعِ والوصْل \ وعندها الطبول.. \ ليست المسألة في التكافؤ \ بل في شرف المحاولة”: يختصر مطلع هذه القصيدة نظريّة معرفيّة في الإشراق الشعري، ترى ضرورة بناء معرفي واسع وتجربة حياتية ثريّة وخيال خلاّق وذهن متيقّظ، وقّاد. نظريّة كتلك التي شرحها “سيسل دي لويس” قائلاً: “.. ولكتابة بيت واحد من الشعر على المرء أن يرى مدناً عديدة وأناساً وأشياء، على المرء أن يتعرّف على الحيوانات وأسراب الطيور والإشارات التي تفعلها الأزهار الصغيرة عندما تتفتّح للصباح، على المرء أن يعود بفكره إلى أصقاع مجهولة، إلى مصادفات غير متوقّعة وإلى إنفعالات توقّعها منذ حنين إلى أيّام الطفولة التي ما زالت غير واضحة، وإلى الأبوين اللذين جرحنا شعورهما عندما حاولا أن يقدّما لنا بعض السرور الذي لم نفهمه.. لا بدّ من وجود ذكريات من ليالي الحبّ تختلف الواحدة عن الأخرى، وعويل النساء في المخاض.. لا بدّ أن يكون المرء قد صاحب أناساً يحتضرون وجالس الموتى في غرفة مفتوحة النوافذ والأصوات تتردّد بنوبات. ومع ذلك فلا تكفي الذكريات، فالإنسان ينسى هذه الذكريات عندما تكون كثيرة، وعلى المرء أن يملك الصبر لإستعادتها، آنذاك فقط قد تشرق الكلمة الأولى من القصيدة وتنطلق منها.
ليس التكثيف وحده ما يميّز قصيدة مسلماني، فالصور الشعرية المشغولة بدقة صباغ ماهر يجيد إختيار أصباغه، ويتدبّر أمر مواقعها ومقاديرها وحسن مزجها وترتيبها بطريقة غير مسبوقة تؤمّن لها جدّتها وحسن استقبالها عند المتلقّي. “الشرارة / حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف”، ففي تكنية ـ من الكناية ـ الشاعر عن الفكرة بالشرارة أعطاها قيمة معنويّة لا تتمتّع بها في الحقيقة، فالفكرة شيء ساكن ينمو على مهل في عتمة الدماغ، بينما الشرارة لمّاحة، مفاجئة، تنبثق من تحت الرماد الصامت، صارخة، معلنة عن قدومها، ولو أنّه إعلان قصير، ولكن له صدى وتجاوبات من الانبهار والتعجّب تدوم بعد تلاشيه وتبعث تداعيات تختلف من متلقٍّ لآخر. وتظهر دقّة الصنعة بتوشية الصورة بلفظة “حظّها” التي أخرجت الفكرة ـ الشرارة ـ عن وظيفتها الحقيقيّة لتعطيها معنى تخيليّاً، فإذ هي كائن حيّ يتعرّض لدواعي الحظّ، لا مجرّد شيء ما موجود في مكان ما. ثم يتبع الصورة الثانية صورة ثالثة هي: “قمّة المعرفة”، فإذا المعرفة ليست مجرّد قيمة معنويّة فكريّة، وإنّما هي شيء حسّي يُدرك باللمس والبصر له شكل يتألّف من قاع وقمّة، وقمته هي رأسه، أنبل ما فيه، حيث يتربّع هذا الشيء الجليل ـ الفكرة – الشرارة ـ فالشرارة بعد ان كانت في الصورة الأولى أمراً عاديّاً يخضع للحظّ، قد يكون أو لا يكون، تبعتها صورة ثانية مجّدتها وجعلتها تاجاً لأعلى ما تفتخر فيه الإنسانية “جليل التراكم” المعرفي، و”جليل النوع”. وفي صورة ثالثة نفى الشاعر ما نسبه للشرارة في الصورتين السابقتين، وجعلها رهينة للرأس ـ الدماغ ـ الذي يختلف من مبدع إلى آخر، وهي لذلك ليست دائماً جليلة، وإنّما هي محاولة عرضة للفشل والنجاح.
لن نستطيع إخضاع هذه الصورة للمنطق العقلي، وإنّما علينا أن نتلقّاها مثل صدى، والصدى ليس مجرّد تكرار، فحالما نموضع الصورة يتحتّم علينا تخيّلها مرة ثانية، لأن الصورة التي لا تفرض على الفكر إعادة تخيّلها وتقويمها لا تنهض إلاّ على جدول ذهني للرموز تتماثل داخله الصورة مع الرمز. وقد أسهب الناقد العربي القديم منذ كان الشعر شفاهة على قيمة البلاغة والفصاحة واسشتهد العرب بعبارة “القتل أنفى للقتل” كدلالة على القول الفصيح البليغ وعرّفوها بقولهم إنها: “الإيجاز والاختصار وحذف فضول الكلام، حتى يعبّر عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة”، وهذا الباب من أشهر دلائل الفصاحة وبلاغة الكلام عند أكثر الناس، حتى انهم إنما يستحسنون في القرآن الكريم ما كان بهذه الصفة”، وفي ذاكرة مسلماني الجمعيّة غرفة لهذه الحلية الإبداعية تجلّت في قصائد قصيرة جدّاً كمثل: “تدعوه إلى العقل \ يدعوك إلى علم الكلام”. “القبضةُ \ شديدةُ التملّك \ وقاسية”. “رحلة \ من ذئب إلى كلب”. “الحواسُّ \ غيرها في المرّة الثانية”. و”على قدر العقل يعبر الغد”.
للغة مسلماني خاصيّة معيّنة، فهو يخرج بألفاظه عن معانيها المألوفة، يقيم علاقة جديدة بين الألفاظ لم يسبقه أحد إليها، وهي مع ذلك ليست مسرفة في الغموض: “رحلة \ من ذئب إلى كلب”. تلاشت صورة الذئب التي نعرفه بها وتلاشت صورة الكلب، وخرجت لفظة “رحلة” عن معناها المجسّد الى معنى عقلي، كأن تكون رحلة إنسان خسيس يحاول أن يتسامى فيسقط في الأشدّ خساسة. وهكذا في بقية الصور اللاحقة، نحسّ كأنّها الفاظ جديدة لم نعهدها من قبل، أصبحت تعني أشياء أخرى قد تختلف من قارئ إلى آخر، فالذئب قد يعني الذكاء وسعة الحيلة عند بعضهم، والدناءة والمراوغة عند آخرين، وكذلك الكلب فقد يعني الوفاء للبعض ويعني الذلة والتبعيّة لغيرهم.
تحكم نصوص مجموعة “ضوء آخر” رؤية مجتمعيّة نقديّة تبرز أحيانا ملتزمة الأدب المسؤول الذي أراده “رئيف خوري” دفاعاً عن الحقيقة، على اعتبار أن الحقيقة ليست واقع الحال فقط بل هي الحال أيضاً… وتبقى أخيراً نصوص “ضوء آخر” للشاعر شوقي مسلماني تجربة شعرية ذات خاصيّة يمتزج فيها الشاعر الرائي، الذاهب باللغة إلى أقصى تفجيراتها، بالأديب المسؤول تجاه عروبته وإنسانيته، ولا يعيبه إن جنح به حسّه الوطني نحو الدعائي والمباشر ما دام قادراً على لجمه شعريّاً ساعة يشاء. وفي ما يلي نصوص له من المجموعة:
“مِنْ أينَ تبدأ؟ \ مِنْ حافّةٍ في الرأس؟ \ مِنْ فوّهةِ بركانِ الرأس؟ \ مِنْ مكْرِ الرأس؟ \ مِنْ كراماتٍ للرأس؟ \ مِنْ شظيّة؟..\ وفي الرأس مَن يستأصل بدأب \ زهرةَ الحياة.. \ وفي الرأس ثعلب \ وفي الرأس أخرق \ وفي الرأس خواءٌ وصداه \ وفي الرأس نصفُ الرأس \ ما خلفَ ظهرِ الرأس \ وديكُ الرأس.. \ أم تبدأ ممّا في الرأس \ يختبئ ذعراً مِنْ كثيرِ ما يكون؟ \ مِنْ بكاء أم ممّن \ يتردّد في أن يكون وجهاً؟ \ أم ممّا في الرأس مِنْ أوبئة وكأس محطّم؟.. \ أمامكَ كاتم صوت \ من يفتخر أنّه بلا صوت \ من لا ينتبه أنّه بلا صوت \ مَنْ يصلّي لكي لا يكون له صوت \ ومَنْ يقسم إذا صوتٌ \ سيعدمه عمرَه صلباً، حرقاً، شنقاً.. \ وفي الطريق عيون وقحة \ تبتسم، تلدغ، تتثاءب وتنام”.
**
“عمّا تبحث فيما تقول \ عمّا تبحث فيما تقلق وتأرق \ فيما ترقد وتتأمّل \ عمّا تبحث \ فيما ترسم وفيما تكتب \ عمّا تبحث”؟.
**

“عمّا تبحث \ عندما تدمع حزناً \ عمّا تبحث \ عندما تدمع فرحاً \ عندما تشير إلى جهة \ أو عندما تكاد تختنق \ وعندما بأعلى صوتك \ تضحك \ عمّا تبحث”؟.
**
“وجوه ذاهلة \ الحرارةُ فوق الأربعين \ لا قطرةَ ماء، المشهدُ يتكرّر \ شِباكُ صيّادي السمك في البحارِ البعيدة \ لا تزال ترفع عظاماً بشريّة \ لا، لا نفعَ بعدُ \ من رفعِ تقارير للجهات الحكوميّة المعنيّة \ الحرائق في الوجوه \ من أثرِ خليطِ الملح والنفط \ من أثرِ نفاقِ العالم \ لا، لا تقلْ إنّي أسأتُ فهمك \ إنّك لا تكره \ إنّ القلوبَ تقسو مرّات \ إنّك تطلق الرصاص فوق رؤوسِهم \ لجماً للإكسودس ـ للرحيل الأعظم \ فقط قلْ هم لا يشبهونك”.
**
“لا فراشة \ لإنعاش الطقس”.
**
“مجنون في الوسط \ مِنَ حيّز مأهول بالرمل”.
**
“عندما تعلم \ عندما لا تعلم \ عندما كأنّك تكلِّم ذاتَك \ أو عندما تتحدّث الى أذنٍ للإيجار \ أو عندما تحتمل بصبرٍ جميل لساناً للإيجار”.
**
“جهةٌ \ عملها دفن موتى \ جهةٌ \ لا تفضّ التباساً \ جهةٌ \ لا أحد له علاقة بها \ ولا هي لها علاقة بأحد \ جهةٌ \ لم تولَد \ جهةٌ \ محمّلة بأكياسِ الفراغ \ والحصَاد \ يسجّل رقماً قياسيّاً \ الأكياسُ تكاد تتمزّق \ جهةٌ فوق وحركةٌ تحت \ جهةٌ تمرّ \ وقلّما يلاحظ أحد \ ومع ذلك يركبها شيطان \ كلّما وقعتْ عيناها عليه \ وجِهةٌ خرجتْ \ ولم تعد”.
**
“ذاتها الخَرافة \ ما أكثر العقل فيها \ وذاته العقل \ ما أكثر الخرافة فيه \ العلماءُ الطبيعيّون \ عملُهم أن يشيروا بالنصح \ ولا يحرِّك ساكناً مثل الذي ينظر بألم”.

**
“حتى \ في الأعماق السحيقة \ حيث العتمة الموحشة \ أنامل رقيقة وعيون طفلة \ وضوءٌ آخر \ ينبض.
ـ نقلاً عن “الكلمة” ـ شهريّة ـ أدبيّة، فكريّة.

شاهد أيضاً

“ هواوي” وهجومها العكسي على العقوبات الأميركية

نعمت الحمد كانت شركة “هواوي” متفوقة على العالم في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، ما مهّد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *