حياة… بلا أطفال

بقلم هيام فرج

في مقابلة مع ” الدايلي ميل ” حكت البريطانية ” إيزابيلا ديوتون ” عن تجربتها كأم

أنا نادمة على إنجابي أطفالي , هم كالطفيليات , يأخذون مني دون أن يعطوني شيئا , لم أحس بحنان الأمومة تجاههم , وهذه الأحاسيس لم تولد نتيجة الإرهاق , أو إكتئاب ما بعد الولادة , وبالرغم من كرهي للأمومة إلا أنني لم أتوانَ عن الإعتناء بطفلي ّ. أكثرما كنت أقدره في حياتي هو تمضية الوقت مع نفسي , القراءة والهدوء , وفجأة فقدت هذا الهدوء , أنا أعلم أن حياتي كانت ستكون أكثر سعادة وإشباعا بلا أطفال .

ليس سهلا قراءة هكذا رأي فيه هذه الجرأة في الإفصاح ,وهذا الخروج الصارخ عن الصورة النمطية التي طبعت في أذهاننا عن الأم والأمومة , وصوًرت المرأة وكأنها ناقصة من دون أطفال , وكأن الإنجاب هو وظيفتها الأساسية .

وغالبا ما تتعرض المرأة للمضايقات إذا تأخرت في الإنجاب أو إذا كانت عقيمة , بل أن أكثر ما يؤلم التعرض لها من قِبل نساء مثلها ولكن سبق لهن أن أنجبن . ليس أقل الإساءات تلك الأحكام بأنها ستندم يوما , أو أنها لن تعرف السعادة مطلقا , أو أن حياتها لن تستقيم من دون وجود أطفال …. وكي لانطلق الأحكام بدورنا , قد يكون دافع بعض هذه النساء التحفيزعلى خوض هذه التجربة .

ولكن ماذا لو أن الأمومة ليست أمرا مغريا بالنسبة لبعض النساء ؟ ماذا لو كان القرار بعدم الإنجاب قرارا إراديا ؟

وإذا كانت مجتمعاتنا لا تعطي الفرصة للفتاة للتفكير إذا كانت تريد أن تنجبأم لا , فلأنه ببساطة أمر متوقع منها بحكم قدرتها الفزيولوجية , فهل من يسألعن قدرتها النفسية لتحمل مسؤولية طفل وتربيته ؟

ولأننا نعيش في مجتمع دائما ما يضع المرأة في دائرة الإتهام , نتكلم عن الأمومة وقليل ما نذكر الأبوة .

في مشهد من مسلسل ” النار بالنار ” سألت سارة ( الممثلة زينة ملكي ) عزيز( الممثل جورج خباز ) إذا كان يفكربانجاب ولد يوما ما , أجابها بإبتسامة ساخرة ” أعوذ بالله” معتبرا أن قمة الخبث والأنانية إنجاب ولد يصرف المال على تعليمه فيصبح ملزما برده عندما يكبر في العمر وهو ينقله من مستشفى لآخرأو ليكون إمتدادا له وإن لم يكن فكارثة .

يبدو أن فكرة العيش بلا أطفال تراود الجنسين , ويكثر هذا التفكير في هذا الزمن , في ظل الصعوبات الاقتصادية , والحروب , والكوارث الطبيعية , وتغيُر طبيعة الحياة ومتطلباتها .

وإذا تعمقنا في الفكرة أكثر فسنجد فلسفة قائمة بحد ذاتها عن الحياة بلا أطفال هي فلسفة ” اللا إنجابية ” . فالفلسفة بحد ذاتها وُجدت للإجابة على أسئلة وجودية , أما السؤال الذي تبحث فيه الفلسفة هنا : هل يستحق البشر الوجود على هذه الأرض ؟ فتجيب : إنتاج المزيد من البشر هو فعل خاطىء ومضر للطبيعة بفعل أسباب كثيرة , فالعالم مليء بالمعاناة, فأين الحكمة من إنجاب أفراد جدد يشاركون في هذه المعاناة ؟ رغم أن فكرة الحياة مرتبطة بالألم مذكورة في كل الأديان السماوية , وفي الأديان الآسيوية أيضا حيث تكثر النصوص التي تتحدث عن محاولات الإنسان للهروب من الألم .

من ناحية أخرى كثرحديث الأدباء والشعراء عن هذه المعاناة , فيقول أبو العلاء المعري : هذا ما جناه عليً أبي , وما جنيت على أحد.

في روايته ” عندما بكى نيتشه “– وهي رواية خيالية تجمع بين الفلسفة وعلم النفس ولا تمت لحياة نيتشه بأي صلة – يرى الكاتب والطبيب النفسي الأميركي إرفين د. يالوم ” أن إنجاب الأطفال ليس سوى سعي المرء إلى الخلود عبر قذف بذرته نحو المستقبل وكأن الحيوانات المنوية تحتوي على وعيك .

ويقول :” من الخطأ إنجاب الأطفال بسبب الإحتياج , من الخطأ أن تستخدم طفلا من أجل تخفيف الوحدة , أن تمنح الحياة معنى عبر إنتاج نسخة أخرى منك “. إشارة منه إلى أنانية الفرد ورغبته في الإستمرارية .

وإذا عدنا إلى بداية المناقشات في هذه الفلسفة فسنجد أن الفيلسوف الإلماني” شوبنهاور ” هوأول من وضع فرضية إنجاب الأطفال بناء على قرار عقلي وليس عاطفي , وكانت إجابته عاطفية بإمتياز ” التعاطف مع الأجيال الجديدة التي لم تولد بعد من خلال حمايتها من الألم الذي ستعيشه عند قدومها إلى هذا العالم . وبالتالي رفض تصرف خالٍ من المسؤولية والرحمة (الإنجاب) .

وإذا أصبحت فكرة اللاإنجابية فلسفة في القرن التاسع عشر والقرن العشرينفإن القرن الواحد والعشرين كان بداية إنتشار هذا الفكر , في ظل إنتشار الأنترنت الذي سمح للناس بالتواصل والتشارك وبالتالي سمح بالمعاناة معا , في ظل أحداث عالمية جعلت العالم في صدمات متتالية .عدا عن الأسباب البيئية المتعلقة بالموارد, والأسباب الإقتصادية المتعلقة بتوزيع الثروات وأسباب إجتماعية متعلقة بالمساواة , ورغم أن الحياة لا تخلو من وجود أشياء جميلة فيها إلا أن تأثيرالألم يبقى هو الأقوى . وبالتالي لا بد من إنقاذ هذا الكوكب من براثن البشرية التي تمعن في تدميره .

أما الأخصائيون النفسيون فيؤكدون أن دافع هذه الفكرة هو “الهشاشة النفسية” لأفراد كابدوا المعاناة بشتى أشكالها وأنواعها وسيطرعليهم اليأس وتغلبت لديهم العاطفة على المنطق والفطرة . من ناحية أخرى هناك من هم محاصرون برهاب الأمومة والأبوة والخوف من المسؤولية .

وتبقى هناك الأسئلة المتعلقة بالثغرات والفجوات في الهرم العمري التي من الممكن أن تترتب على هذا التفكير, إضافة الى المشكلات الإقتصادية وصعوبة تجدد الأجيال, وغيرها من التحديات التي قد تساهم في إنهيار الكوكب بدلا” من إنقاذه .

خلاصة القول أن الإنجاب لا يخضع بالضرورة لغريزة الأمومة أو الأبوة ,خاصة في هذا الزمن , وإنما هو قرار يترتب عليه الكثير من المسؤوليات والتضحيات , من غير المقبول أن يكون من المسلمات , والأمومة كما الأبوة عمل مستمر , وبدوام كامل . والمهم أن يكون قرارا نابعا عن العقل قبل العاطفة , ومن غير المقبول أيضا الحكم على أولئك الذين أخذوا قرارهم سواء بالإنجاب أو بعدمه فالمهمة في كل الأحوال ليست سهلة على الإطلاق .

شاهد أيضاً

إردوغان والأسد إن التقيا “قريباً”.. في بغداد أم أبو ظبي؟

  توفيق شومان تبدو المساعي العربية والإيرانية والروسية في سباق غير معهود لإنتاج تسوية سورية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *