مقاربة بنيوية لقصيدة الجسر للشاعر خليل حاوي

 

إعداد: الطالبة تابيتا غسان الملعب

مقدمة

لم ينكر أي من نقاد الشعر العربي الحديث أن الشاعر اللبناني خليل حاوي، يعد بمثابة أحد رواد القصيدة الحداثية، والمستأنفين لمدرسة الشعر الحر، التي كانت صدمةً للبناء التقليدي للقصيدة العربية، والتي ظلّت منتصبةً ضد التقليد والمحاكاة. حملت حاوي، على غرار الكثيرين من المثقفين في جيله، موجة “العُروبية”.
ما فتئ يستعمل الشعر ليعبر عن موت هذه ”الأيديولوجيا العروبية “لكن ما ميز حاوي أنه، وفي عز إيمانه في الأيديولوجيا عملياً، واجترارها للخيبات والانكسارات والهزائم وتعميق الجراح الفردية والجماعية في الأوطان العربية التزم خليل حاوي بالقضايا الهامة، محاولاً أن يحكي للأجيال مأساة الإنسان العربي من خلال دواوينه الشعرية. إذا أردنا أن نعرف خليل حاوي كشاعر وطني نرى أنّه انغمس في وطنيته وعروبته حتى احتلّت كيانه وشعره الى ما بعد مماته. فنراه تارةً يستبشر خيرا في امته العربية وطورا يصور مأساتها ومعاناتها والانبعاث المشوه الذي هي عليه لنأخذ مثالاً قصيدة اليعازر التي صورت مأساته من النهوض العربي، وصولاً الى محاولاته المتكررة في الانتحار وأكذوبة أن سبب انتحاره كان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت (من كتاب شهوة الموت بذور الانتحار عند خليل حاوي-طوني عيسى) يكاد يجمع قراء شعر حاوي على أن المحرك الأول لخطابه الشعري هو محرك حضاري رؤيوي يحمل أعباء عصر مأزوم بواقع تتقاذفه تناقضات شتى تلعب فيها عناصر داخلية وخارجية معا لعبة استلاب خطيرة، قدر لها أن تظل في مد وجزر حتى يتفاقم أمرها، فلا يجد الشاعر خلاصه من احتدام شرورها إلا بالموت، على الرغم من مقاومة عنيدة لواقع موضوعي كانت سوداويته تمد الذات دوما بأبعاد تشاؤمية مشحونة برفض حاد لعوامل الفساد، مما جعل زمنية هذا الشعر زمنية كثيفة متداخلة عصية على الفرز والتأشير، اذ يتداخل في نصوصه الزمنان.. السلبي والايجابي، حتى في أكثر القصائد قدرة على النهوض بأحد الزمنين، وهكذا لجأ خليل حاوي الى زمن الرموز، ولجأ الى الأسطورة في محاولة بطولية لمجاهدة رتابة الزمن ورتابة التعبير والأشكال الشعرية التقليدية، فكان هذا الشاعر بحق الرائد الذي بذل جهدا خلاقا من اجل تجديد الشعر العربي وتحديث طرائق أدائه، وتحويله من مرحلة المخاض إلى مرحلة فنية أكثر تطورا وانفتاحا

تعد قصيدة الجسر للشاعر خليل حاوي بمثابة انبعاث أمل جديد في نفسه وإعطاء أملا جديدا لأمته للعبور وللنهوض. يرتبط الجسر، في الحياة الواقعية، بالعبور، عبور الأنهار بشكل أساسي. فهو تخط لعقبة تعترض الطريق، فإذا عدنا الى ايديولوجية حاوي نراه ليس ذلك المتشائم الدائم في الوجه العربي فهو لم يعط شعور اليأس الا بعد سنين من المحاولة. وهنا كما نرى من العنوان أن الجسر تغييب للبعد السلبي واستبقاء للبعد الإيجابي. فهو رمز للسهولة المتولّدة عن الصعوبة.

في هذه الدراسة سوف أتناول المقاربة البنيوية لقصيدة الجسر للشاعر خليل حاوي، مركزةً على المستويات الصرفية والنجوية والبلاغية والايقاعية والمعجمية ولكن سأبدأ اولاً بذكر سبب إختياري لهذه القصيدة كي أجري عليها دراستي.

تسويغ إختيار هذه القصيدة:
كانت قصائد خليل حاوي أحد أثاث بيتنا، ترعرعنا على أضلعه وهو يمدها جسرا للعبور. إن النشوء في بيت قومي عربي، يؤمن بالعروبة وبالقضية الفلسطينية يجعلني قريبة من قصائد خليل حاوي وخاصة قصيدته الجسر التي عرفتها في سن العاشرة عندما غنّاها مارسيل خليفة عبر صوت المذياع.أضف الى ذلك أن خليل حاوي كان أستاذ والدي في الجامعة وقد استطاع أن يأخذ منه قليل من زاده الثقافي والفلسفي والشعري وأن يورثنا أياه فاصبحنا كلنا على معرفة قريبة وواضحة بمنهجية خليل حاوي. إن قصيدة الجسر كانت بداية وعي السياسي والشعري معاً لأنها لم توقظ فقط حسي الأدبي بل أيضا وعت حسي الوطني، فلا قيمة للأدب ما لم يخدم الإنسانية مع احترامي لمدرسة الفن للفن، ولكن كي يؤرخ الأدب لا ب ّد أن يع ّول على الإنسان ويخدم قضاياه والتّاريخ يشهد قصائد ماتت لأنها خدمت ذاتها فقط وقصائد أعيد إحيائها لأنها بقيت ترافق المرء جيلا بعد جيل. أضف الى ذلك أنّني من مناصري الرمزية في الشعر العربي وخليل حاوي قد أبدع في قصيدة اليعازر والسجين والجسر في توظيف رمزيته ليمد جسر عبور ايضا بينه وبين المتلقي وكانت لرمزيته هذه الفطنة كي لا تجعلنا نتيه الطريق ونحن نبحث عن معنى نعبر من خلاله الى رؤية حاوي بل كانت رمزيته كالّلؤلؤ المنثور جعلتنا نبحر عمقًا لكنّنا نعرف كيف نبحر والى اين نبحر لنصطادها.

أراد حاوي في قصائده ألا يجعلنا نتيه، أن نبحر معه الى عالمه الى معنى وجودنا في العالم، ان نجعل من وجودنا قضية فالانسان في نهاية المطاف قضية. لم يرض حاوي أن يبقى وجودنا عبثيا، لا نتحرك حتى على قيد أنملة، أن يعشعش الصمت والهوان والتخاذل في جعبة قلوبنا فهو سئم التعب بل انّه سئم الوقوف كضحية حية في وجه هذا العالم. ستكسرنا الحياة نعم، ولكن حاوي أحب الوقوف لاخر مرة وأن لا يقف وحيداً فرافقناه نحن بعد أربعين عاماً كأننا نقول له : ” مد لنا هذا الجسر لنبحر معك ولا نغرق”.

المستوى الإيقاعي الموسيقي:
عند إطلاعنا على قصيدة الجسر من الناحية العروضية نرى أنها مبنية على نظام التفعيلة وقد استعمل الشاعر تفعيلة بحر” الرمل” (فاعلاتن)، وتختلف عدد المرات التي تتكرر فيها التفعيلة من سطر الى ّ آخر. تنتهي هذه القصيدة بالقافية الساكنة كأنها تدل على شيء من اليقين والإلتزام في ذات الوقت، كذلك دلت على الثقة بالنفس وعدم التّوتر والإنفعال بل على العكس تماماً نرى من التسكين الهدوء و الثورة معا ولكن ثورة ملتزمة محددة الرؤية والغاية، سهلة على الحفظ، تٌعلق في الأذهان بطريقة انسيابية.
نلاحظ التكرار اللفظي للفعل “وكفاني” وكأن الشاعر أراد التعبير عن أمله المنبسط في الإكتفاء بما لديه من نعم يمتن لها. كذلك استعماله لعبارة ” أن لي” وتكراره لها عدة مرات له غاية في نفس الشاعر ونرى أن غاية التّوكيد والتكرار تتجلّى في تعويله على ما لديه لأن الانسان لا يذكر ِنعمه الا إذا كان شاع ّرا بوجودها وممتن لها. إن استخدام أسلوب التكرار في القصيدة هو استخدام يصب موسيقيا في تزيين نغم القصيدة وجعلها قصيدة مغناة وهذا ما حصل بالفعل فقد لحن الفنان مارسيل خليفة هذه القصيدة وأعطاها شهرةً مميزة عرفت الناس أكثر على فكر و رؤى خليل حاوي. أما على الصعيد الأدبي، فالتكرار يساهم في غرز الفكرة أكثر في ذهن المتلقي وخاصة إذا كانت تعبر عن فكر متنور أو قضية متنورة فضلاً على أن التكرار من الظواهر الصوتية ذات الأهمية في تعميق وإثراء الإيقاع الداخلي بما يضفيه على النسيج الشعري من زيادة في التنغيم وتقوية الجرس الموسيقي، وتنوع التكرار بين تكرار دلالة وتكرار بنية، كذلك نلاحظ التكرار الصوتي المستخدم عند الشاعر، فنجد في هذه القصيدة تكرار عدة أحرف منها حرف النون مثلا في (كفاني،أن،عندي) ولا شك أن تكرار مثل هذا الحرف له دلالته على الشاعر، فحرف النّون هو حرف مجهور، ودلالته في القصيدة هو الظهور والبروز، وهذا ما نجده عند حاوي حيث أنّه يعتز بما كفاه وكلَه ثقة أ ّن له في حبهم خمر و زاد، وأن عنده من حصاد الحقل ما يكفيه كذلك نلاحظ تكراره لصوت الدال ومافيه من قوة وانفجار في نفس الشاعر وهنا نلحظ انبثاق المعطى الّدلالي من المعطى الصوتي الإيقاعي.أّما فنًيا فقد استطاع حاوي أن ينقلنا الى عالمه عبر تكراره لما يريد وتطويعه للغة حسبما يشاء، فهو يعتمد البناء الدائري ويكرر مجموعة من الألفاظ والجمل ذات أهمية دلالية عبر أكثر من سطر، مثال تكراره لعبارة: ” أين من يفني ويحي ويعيد”. كذلك تكراره لعبارتي ” سوف يمضون ونبقى” و “فارغ الكفين، مصلوبا، وحيد” وكأنه يشدد في كلا الحالتين على المضي والعبور والانتقال،وتكرار تشبيهه بالمسيح خاصة في العبارة السابقة تؤكد على ثقته بتضحيته من أجل الأجيال القادمة وأن قدسية تضحيته لا تقل أهمية عن قدسية تضحية السيد المسيح. (سنشرح أكثر عن هذه المقارنة في المستوى البلاغي)

كما أن الشاعر استعمل أسلوب الموازنة في العديد من كلماته نذكر منها على سبيل المثال لفظة “كنوز، عجوز” و لفظة “صديد، يعيد، عبيد” وبهذا الأسلوب أراد الشاعر توصيل غاية صرفية واخرى لغوية فنلاحظ مثلا تشابه الحقل المعجمي بين صديد ويعيد وعبيد. فإن الموازنة هنا لم تخدم المستوى الإيقاعي لتُنجح اللحن الموسيقي في الشعر بل ذهبت أبعد من هذه النقطة، إذ أنّها خدمت تبلور المعنى أكثر وجعلته قريبا أكثر وهذا ما نسميه بتقريب الصورة الى المتلقي كذلك إستعمال تقنية التلاؤم الصوتي الذي يعد من الاساليب البلاغية التي تضفي لحنًا وحياة على القصيدة.

إستنتاج عام:
أرى أن الشاعر خليل حاوي قد أجاد في إستعماله اولا لبحر الرمل، لتناسبه مع بناء القصيدة الشكلية كما أنّه لائم بين قضية المبنى والمعنى خاصة عندما استعمل أسلوب الموازنة في أبياته “كنوز،عجوز” ونلاحظ ايضا استعمال خليل حاوي بشدة للتكرار من أجل أن تخدم قضيته الوجودية والوطنية ومن أجل أن يذكر أترابه بها عبر صوت أولاد أترابه، كما كان لإستعمال التكرار اللفظي والصوتي والموازنة اثرا مهماً في توصيل فكرة الشاعر شكلا ومضمونًا. لقد خدم المستوى الإيقاعي القصيدة عبر جعلها مغناة وجعلها تترسخ أكثر في ذهن المتلقي ناهيك عن إضفاء جمالية فنية للقصيدة.

المستوى الصرفي-النّحوي:
مما لا شك فيه أن الشاعر قد أجاد في إستعماله للغة الشعرية وجعلها تخدم أهدافه ورؤيته فأمست البنية اللغوية لدى حاوي بنية متماسكة وصلبة وقد شهدنا ذلك في إستعماله لبنية الحاضر في معظم أفعاله وتداخل بنية الماضي مع بنية الحاضر والمستقبل. إن إستعمال لفظة الجسر لم يكن إستعمالاً هامشياً عفوياً غير محضر لهُ بل كان إستعمالا يتوافق مع إستعمال الماضي والحاضر في هذا الشكل، فكأنه يقول أن مهمة الجسر لم تقتصر فقط على العبور الجسدي بل أيضاً على العبور اللغوي والدلالي . نحو: “كفاني”،”حملت”،”غسلهُ”، “أنكر”، “نبقى”، يوافيك” “يعبرون”. ونرى مدى تغيرالأفعال ليس فقط من الناحية الصرفية او النحوية بل أيضأ من الناحية الدلالية، فنلاحظ الإختلاف بين لفظة: “أنكر” وبين لفظة “يعبرون”مثلاً ناهيك عن معظم الأفعال الأضداد التي أتت لتكشف لنا مرحلتين متناقضتين لبعضهما ومكشوفتا السلوك والفكر. إن استعمال أفعال الحاضر الدالة على الإستمرار والحركة، يوحي أن النّص يعول على الحاضر فالمستقبل حتى أن إستعمال الافعال الماضية تدل أيضاً على الإنجذاب نحو الحاضر والمستقبل وإذا عددنا أفعال الماضي وأفعال الحاضر في النص فنرى أن أفعال الاخير هي المهمينة وهذا يدل أ ّن الشاعر محاصر في حاضره. على أن هذه الأفعال لا تعكس زمنية أحادية بل هي تتضمن زمنية درامية لأنها تضج بصراع كامن عنيف، وتوحي برفض حاد لزمنية هذا الواقع الذي يكابد منه الشاعر ويتعذب فيه. فنأخذ على سبيل المثال عبارة:”كيف نبقى؟” ” متى نطفر” وهذا دليل قاطع على رفضه للبقاء في ذات الحال فوجود التساؤل والاستفهام الإنكاري خير دليل على أن الشاعر يرفض التأقلم وبالتّالي فهو يرفض حتى الولوج في الحاضر فلا الماضي كفاه ولا الحاضر يستحق التعويل عليه، لذلك نلاحظ كثرة وجود الإستفهام الإنكاري “كيف نبقى ..متى رباه” فالإستفهام الإنكاري عادةً يهدف الى رفض الواقع والتمرد عليه وهذا ما سعى اليه حاوي في رفضه للحاضر البائس وأمله بشرق جديد. نأتي الآن على ذكر الضمائر فيظهر لدينا استعمال حاوي لضمائر المتكلم إن كان الضمير المفرد أو ضمير الجماعة. إذا أردنا تحليل ضمير الجماعة في القصيدة فنرى أن نون الجماعة استعملت للإشراك وكأن حاوي أراد إظهار المعضلة التي يتحدث عنها وكأنها معضلة مشتركة غير مختصة به وحده وهو غير مسؤول فقط عن مجرياتها بل تتظافر الجهود والأفكار في أمة يتشارك ابناؤها جميعهم مآسيها، وقد ظهرت نون الجماعة في عدة أمثلة نذكر منها : “نطفر، نبقى، يدينا، بيتنا،” كما نلاحظ إستعمال الشاعر لعبارة “نبني ِ َيدينا َبيتنا الحر الجديد” وهذا يدل على عمق الرؤيا العروبية الإنبعاثية الكامنة في النص وعلى أن الشاعر يرى أمته كأنّها تعيش ضمن بيت واحد، مصابها الجليل واحد، وبعثتها وقيامتها أيضاً واحدة.

لنأتي على ضمير المتكلم المفرد الآن، إذ نرى أن الشاعر قد استخدم ضمير المتكلم عدة مرات وهذا يدل أولا بشكل بديهي على مشاركة الشاعر في القضية وبالتالي يعني اشراكه في القصيدة. أما ثانياً فإن استخدام “ياء” المتكلم فتعني الملكية وتعني تخصيص الشيء للشيء وهنا استخدم الشاعر الياء لكونه يختص بالحصاد والكفاء وأولاد أترابه وكأنه يضع جسرا آخر بين كلماته وبين أترابه وهذا الجسر هو ضلعه الذي يحضن به أولاد أترابه من جهة وحصاده من السنين من جهة اخرى وطبعا هذا الضلع لا يخلو من غبرات الماضي والحاضر ولكنّه يطفو ويستعد للموازنة بين الماضي ولفحاته الباردة و بين المستقبل واشراقه المتنور، كذلك نرى استعمال لأدوات الربط بكثرة ولكل منها دلالته وأهميته فنأخذ مثالأ استخدام الشاعر لحرف العطف “الواو” في مرات متعددة نحو: “من يُفني ويُحيي ويُعيد” وهنا كانت الدلالة ليس بمشاركة المعطوف للمعطوف عليه فحسب بل لتعداد افعال الحركة للفاعل المقصود وتناغمها في وقت واحد لا يفصل بينها شيء، وهذه الدلالة دخلت في وصف الفاعل ومن أحد أهم عناصر التوصيف هو التعداد والتأكيد.

كما ان الشاعر استعمل أسلوب النداء في قصيدته وهذا طبيعي فهو لم يجعل من قصيدته لوحةً فنية نقدر بنيتها الأدبية والشعرية فحسب بل جعلها رسولا للأجيال القادمة وعلى هذا الرسول إيصال نداء حاوي. إن النداء المستعمل في النّص كان على مرحلتين اول مرحلة عندما تغّيرت نغمة حاوي من شخص يعول على ابناء اترابه الى شخص يوبخ بومة التاريخ فنرانا للوهلة الاولى نُصدم. كيف يمكن لشخص أن ينتقل من صدح الى اخر بهذه الانسيابية وبهذه السرعة وينقلنا معه من دون إذن ومع ذلك ترانا نذهب الى حيث يذهب ونغضب مثلما يغضب ونشتم ونصرخ في وجه تلك البومة كما صرخ وشتم وهذا بالظبط ما قصدته عندما قلت أن خليل حاوي استطاع تطويغ اللغة كيفما أراد.”اخرسي يا بومة”.ومن ثم نراه يذهب الى الثلج الى النقطة الاخيرة وكأنه يدخل المعركة وهو مدجج بالسلاح غير آبه فهو محصن جيدا ويعرف انّه سينجح في النهاية. ” الشتاء قادم” عبارة انكليزية مشهورة عند محبي المسلسلات الفانتازية وقد تكررت عدة مرات في مسلسل صراع العروش وتعني أ ّن الأسوأ قادم وعلينا الاستعداد له جيداً، فنرى حاوي قد جهز امتعته وقرر المجابهة على خط الحرب مع جنوده الذي اختارهم بكل عناية وثقة. كذلك كثرة استخدام “إن” في القصيدة لهو يدل على تأكيد الكلام، فإن كما نعرف تفيد التوكيد وتأكيد القول والحركة، نحو : ” إن لي َجمرا و َخمرا،، ِإن لي أطفال أترابي” فبهذا نثبت ما أسلفنا أن تكراره لهذه الجملتين واستعماله للحرف المشبه بالفعل إن يفيد تأكيد ما عنده والتعويل عليه ( أي التعويل على أطفال أترابه) ونلاحظ ايضا استخدام الشاعر لأحرف الجر في عدة مرات ويستعمل حرف الجر بالأساس لإيصال معنى الفعل أو ما في معناه إلى الاسم المجرور، وذلك لقصور الفعل عن الوصول إليه مباشرة، نحو : “لي” وهنا تم استعمال حرف اللام والياء (جار ومجرور) للدلالة على ملكية الشيء المحكى عنه أي ” أطفال أترابه وحبهم الذي شبهه للخمر وللزاد” كذلك هناك عدة احرف جر استعملت في القصيدة منها ” من، في…” كذلك نرى أ ّن الشاعر نوع في استعماله للاسم المضاف نحو : “نَسل العبيد”، “نَتن الصديد” وهذا ايضا دليل على إغناء اللقصيدة لكي تلائم الذوق الفني كما الذوق الشعري والدلالي. ولكي يزيل الإبهام عن الفكرة التي صاغها كان لخليل حاوي التميز في استخدام اسلوب التمييز فقد خدمه هذا الاسلوب في التعبير عن مقصده بسلاسة وبوضوح ومن دون ابتذال او استغناء عن الرمزية بل أن التمييز أضاف على الرمزية رمزيةً اخرى! فمثلاً في الجملة التالية : ” َغير أَ ِنّي ما حملت الحب للموتى طيوبا, ذهبا, خمراً” وضح الكاتب ما قصده في تعبيره “ما حملت الحب للموتى”.

إستنتاج عام:
إن استعمال المستوى الصرفي النحوي أثًر جدا في تبيان رؤية الكاتب وخاصة عندما أجاد استعمال الأفعال في موقعها الصحيح لتبيان كيفية انطلاق الشاعر (من الحاضر الى المستقبل) وهذا الإنطلاق هو البوصلة التي تحدد الى من يتوجه حاوي وفي أي غاية تصب. كذلك استعمال الضمائر بين لنا إشراك الشاعر لأمته في المآسي والنجاح واستعماله لضمير المفرد يبين لنا ثقته بنفسه وبأولاد أترابه كذلك استعماله لأسلوب النداء الذي أكد لنا مع الحرف المشبه بالفعل إن أن كلامه سيتحقق وعلى الأجيال القادمة التعويل عليه. كما نلاحظ أن الشاعر استغل المستوى الصرفي والنحوي لينقل صورته وليوضح لنا رمزيته فما كان هدفه إيقاع المتلقي في شركة الغموض كما يفعل بعض شعراء الحداثة بل سما هدفه نحو تفهم المقصود من قوله والسعي نحو تحويل القول الى فعل.

المستوى البلاغي :
إن الرمز هو أحد الأعمدة الرئيسية في بناء شعر التفعيلة ويقوم على مبدأ اكتشاف نوع من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافاً ذاتيا، مبتكرا، وبالتالي فدلالته وقيمته تنبثق من داخله ولا تضاف إليه من الخارج، كما يأخذ الرمز الخاص دلالته من السياق والتجربة الشعرية. ، ومن ثم فهو يوحي ولا يصرح، يغمض ولا يوضح، كما أنه يقوم على مبدأ اكتشاف نوع من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافا ذاتيا مبتكرا، وبالتالي فدلالته وقيمته تنبثق من داخله ولا تضاف اليه من الخارج. وبما أن الشاعر خليل حاوي قد إستعمل كما أسلفنا أسلوب شعرالتفعيلة على وزن بحر الرمل فهذا يعني أن القصيدة مليئة بالرموز التي إن دلّت على شيء فإنّها تدل على عمق الشاعر في تبنّيه لقضيته وعلى صراخه الداخل كتجربة منه للعبور نحو المتلقي وإشراكه في القضية ليس لجيل أو زمن معين بل لتصبح قاعدة شعرية وطنية دائرية ويذكر أحد النّقاد أن قصيدة الجسر بالذات وبعد مرور أكثر من اربعين عام على نشرها مازالت تصدح في الأرجاء كلّما ُذكرت على لساننا القومية العربية وثورة الربيع العربي. كثرت في هذه القصيدة استعمال الصور البيانية والمحسنات البديعية لما تحمله من مقومات مهمة للمعنى فبدونها يسقط المعنى ويتهاوى وهي الى ذلك مؤثرة بالنظم ومن دونها يختل.

إستعمل الشاعر حاوي لفظة” خمر وزاد” و أرى أن لهذه اللفظة إشارة دينية ووجودية أيضا فكأنه قارب علاقته بأبناء أترابه كعلاقة المسيح بتلاميذه، وخاصة في نهار الخميس الاخير عندما قال المسيح لهم: خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يُفنى لأجلكم وأخذ الكأس وقال اشربوا منه جميعاً لأنه دمي الذي يسفك من أجل الكثيرين. أرى مقاربة دينية واضحة لإستعماله لفظة الخمر الذي هو رمز ديني والزاد الذي هو لفظة لإستمرار الحياة والتضرع من أجل الحفاظ على القضية الأساس والقتال من أجلها.

اللافت أيضاً استعمال رمزية “مصباح جديد” وهي كناية تدل على ولادة طفل جديد، وقد استعمل الشاعر لفظة مصباح جديد للدلالة على أ ّن كل ولادة جديدة يعني أمل جديد بقضيته وبالانتقال من واقع مشؤوم الى “شرق جديد” على حد تعبيره. إن الولادة بمفهومها الشعبي تمثّل الأمل، المستقبل، والتعويل على الغد.
كذلك ورود مصطلح “مصلوبا، فارغ الكفّين، وحيد” الذي هو تشبيه وكناية عن المسيح، حيث أن الشاعر شبه نفسه بالمسيح في عدة أوجه: أو ًلا بالصلب وكأنه يقول أنه يقدم ذاته وخبراته وثقافته تضحية لأبناء أترابه، مثلما أن المسيح صلب تضحية للعالم، كذلك فارغ اليدين وكأنه يقول أنّه أعطى كل ما بحوزته لأبناء أترابه

وبقي وحيدا كالمسيح

كذلك لقد برز أسلوب “الطباق” في القصيدة، فالطباق يضيف للنص جمالية فنية في ظاهر اللفظ والمعنى ويجعل للنص روحاً ناطقة تؤثر في سامعيه وقارئيه.وهنا اجاد حاوي استعمال الطباق مجددا لخدمة قضيته، فنذكر مثلاً: “يفني ويحيي” وهذان المصطلحان تم استعمالهما ضمن اسئلة انكارية، للتعبير عن واقع الطفولة المشؤومة التي انتقدها والتي استعمل ايضا الطباق فيها “طفلهم، عجوز” للدلالة على تعبها واستنزافها وعلى أن الطفولة مسروقة وعاجزة وهو استقصد استعمال الطفولة لأن الطفولة هي الأمل بنظره كما ذكر سابقًا وهي التي تعطيه الدافع للمحاربة وللعبور.

استعمل الشاعر ايضا اسلوب المخاطبة والتوبيخ والكناية في ذات الوقت في عبارته الشهيرة التي غير تدرج قصيدته من خلالها: “اخرسي يا بومة تقرع صدري” وكأنه يشبه القدر والمشاكل والعقبات والصعوبات الى بومة قارعة مزعجة كاسرة وتحاول منعه من العبور.

إستنتاج عام:
إن الصور البيانية والمحسنات البديعية قد ساهمت في اضفاء جو من الفنية والرمزية في القصيدة مما جعلت المتلقي يبحث أكثر في تقنية الغموض والإستدلال نحو مراجعة المعنى المطلوب.من بين هذه المحسنات والصور كانت الكناية التي قاربت تصوير الشاعر للفكرة وإضفاء رأيه عليها وفيها كذلك المشبهات واسلوب الخطابة والتوبيخ. أضف الى ذلك أسلوب الطباق الذي أضاف للنّص جمالية فنية في ظاهر اللفظ والمعنى والذي جعل للنص روحا ناطقةً. غير أن المستوى البلاغي في هذه القصيدة على خلاف القصائد الحدثية الاخرى لم يساهم في تأويل النص بقدر ما ساهم في تقريب الصورة فعندما استعمل الشاعر اسلوب التشبيه والكناية كان يريد أن نتخيل الصورة بالفكر الذي يشبهنا وأن لا يشعر المتلقي كأنه غريب على خليل وهنا تكمن أسلوبية حاوي ليس فقط في قصيدة الجسر وإنّما ايضا في قصائده الاخرى.

المستوى المعجمي :
يساعد المستوى المعجمي الناقد أو المتلقي بشكل عام على معرفة النقاط الأساسية التي تتمحور حولها القصيدة والتي تعرف بالكلمات المفاتيح، إن تحديد معجم الكلمات هو أمر أساسي يساعد في تحديد قضية الشاعر أكثر وكشف أفكاره ومبتغاه من تشكيل القصيدة. كذلك الأمر يساعد المستوى المعجمي على وضوح رؤية الشاعر وكشف الجانب النفسي الكامن داخله.
كقراءة أولية للقصيدة نلاحظ استعمال الشاعر لمعجم الحياة والموت أو لنسميه معجم “الإنبعاث والفناء” وطبعا هذا معجم لا يحتوي فقط على مفردات وانما يحتوي على أضداد، وكل ما ورد من أضداد أو مفردات إنما هو لتصويب فكرة الشاعر وإبرازها فليس دائما يُفهم المغزى من شرحه فأحيانًا شرح ضده يغنيك عن شرح مفرده وهذا ما لحظناه في كتابة حاوي. لنأخذ مثلا : “مصباح جديد” و مفردة ” الموتى”، الأولى تدل على الحياة والإنبعاث والولادة الجديدة والثانية على الموت والفناء، إ ّن وجود هذين المصطلحين يعرفانا على بعض المعاني التي ارادها الشاعر أن تظهر، فثنائية الموت والحياة هي ليست بثنائية جديدة على الوجه الشعري بل إنّها ظاهرة شعرية متكررة نراها مثلا في جدلية الحياة والموت في قصائد محمود درويش والملفت هنا أن الشاعرين قد استعملا المنهج الوجودي الوطني.

نلاحظ أيضا كثرة ورود مصطلحات دينية ترجع الى الحقل المعجمي ال ّديني وخاصة المسيحي فنأخذ مثالاً :” مصلوبا،فارغ الكفين، وحيد”. إن استعمال المعجم ديني له غايته في التأثير على المتلقي وفي تقريب الصورة او الرؤية او الرمز كون المعجم الديني يحتوي على رموز مألوفة لا حاجة لنا للتفكير المعمق كي ندرك المعنى المطلوب وبالتالي ستصل فكرة الشاعر بشكل مفهوم دون جهد واسقاطات إضافية قد تكون غير منطقية.

إستنتاج عام:
إن استعمال المعجم الديني في قصيدة الجسر ساهم في تبلور القضية اكثر خاصة في تقريب الصورة للمتلقي، فحاوي أراد أن يبرهن حجم التضحية التي يضحيها من أجل امته فما كان عليه الا ان استعمل المنهج الديني فنحن نعلم جيدا مدى تأثر الشعوب العربية بالافيون الديني إن صح التعبير ومدى تركيز الدين على ناحية الإصلاح والتضحية والموت في سبيل الاخر. كذلك كان لمعجم الموت والحياة أهميته في المقاربة بين الماضي والحاضر والمستقبل وخاصة وجود معجم الأضداد فكما أسلفنا إن المعنى المخالف للكلمة قد يشرح أكثر من المعنى المرادف للكلمة في بعض الأوقات.
أخيراً، ما علينا إلا أن نقول ان حاوي قد نجح في توظيفة للمعاجم التي استعملها كلها لأن المعنى الأول

إستنتاج عام للقصيدة :
يكاد يجمع قراء شعر حاوي على أن المحرك الأول لخطابه الشعري هو محرك حضاري رؤيوي يحمل أعباء عصر مأزوم بواقع تتقاذفه تناقضات شتى تلعب فيها عناصر داخلية وخارجية معا لعبة استلاب خطيرة، قدر لها أن تظل في مد وجزر حتى يتفاقم أمرها، فلا يجد الشاعر خلاصه من احتدام شرورها إلا بالموت، على الرغم من مقاومة عنيدة لواقع موضوعي كانت سوداويته تمد الذات دوما بأبعاد تشاؤمية مشحونة برفض حاد لعوامل الفساد، مما جعل زمنية هذا الشعر زمنية كثيفة متداخلة عصية على الفرز والتأشير، اذ يتداخل في نصوصه الزمنان.. السلبي والايجابي، حتى في أكثر القصائد قدرة على النهوض بأحد الزمنين، وهكذا لجأ خليل حاوي الى زمن الرموز، ولجأ الى الأسطورة في محاولة بطولية لمجاهدة رتابة الزمن ورتابة التعبير والأشكال الشعرية التقليدية، فكان هذا الشاعر بحق الرائد الذي بذل جهدا خلاقا من اجل تجديد الشعر العربي وتحديث طرائق أدائه، وتحويله من مرحلة المخاض إلى مرحلة فنية أكثر تطورا وانفتاحا، فكان أداؤه الرمزي والأسطوري.لاحظنا أن القصيدة مرت بعدة فترات وكأنها كتبت بين حقبات مختلفة وهذه الحقبات قد شهدت على ذروة واحتدام ومناجاة للخالق ويأس ومن ثم نهوض واستقرار دائم. هذا بالاضافة الى أن زمان وقوع القصيدة هو اصلا زمان مدجج بالتناقضات والصراعات القومية والعربية والوطنية ولأن الأدب كان وما يزال ابن بيئته فلقد رأينا أن القصيدة كانت مليئة بالصراعات وبتعدد الإنفعالات. إن استعمال حاوي اسلوب مخاطبة اولاد أترابه وتوجيهه الكلام لهم بمعزل عن ابائهم يبين مدى تعويل خليل حاوي على الجيل الجديد الذي ولد والجيل الذي لم يولد بعد وخاصة عندما يقول في الخاتمة ” لي جمر وخمر للمعاد” وكان قد كرر هذا التعبير بأوجه مختلفة، وإذا رجعنا الى خلفية خليل حاوي السياسية كون خليل حاوي ينتمي الى الحزب السوري القومي الإجتماعي فنرى مدى مقاربة رأيه في القصيدة بمقولة فلسفية لمؤسس الحزب السوري القومي الإجتماعي أنطون سعادة: “إنني أخاطب أجيالا لم تولد بعد”

شاهد أيضاً

حرب بلا نهاية

عبدالحليم قنديل لا تبدو فى الأفق من نهاية قريبة لحرب “غزة” ، رغم وجود كلام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *