أبو عبيدة” الغامض.. لماذا تنتظر الملايين إطلالته؟

سعيد السني

مع كلّ حربٍ، يظهر “بطل إعلاميّ” تتّجه إليه أنظارُ ملايين البشر المعنيين بهذه الحرب؛ المُكتوين بنارِها.. يترقّبون إطلالاته وكلماته وبياناته وبلاغاته.. تتعلّق به آمال المتابعين؛ انتظارًا لما يشفي غليلهم من هزائم للأعداء بميادين القتال والنزال.. هكذا، جرى في حروب عديدة سابقة. في الحرب الدائرة الآن على غزة- الصامدة في مواجهة الكيان الصهيونيّ المدعوم أميركيًا وأوروبيًا، والمُحاصرة منذ 17 عامًا- يتوهّج “أبو عبيدة” النّاطق الرسمي باسم كتائب القسّام (الجناح العسكريّ لحركة حماس). الرجل يبثّ بيانات ناريّة، تبعث الأمل في نفوس الشّعوب العربيّة التي تعاني الانكسارات والهزائم الحضاريّة والاستبداد وليونة الأنظمة الحاكمة مع الصهاينة ورُعاتهم الأميركان.

 زمن انكسار الصهيونيّة.. وكسر قواعد علم الاتصال

لكن.. ما لُغز هذا التأثير الواسع لـ “أبو عبيدة” شرقًا وغربًا، رغم غموض شخصيّته، وتغييب وجهه خلف اللثام؟. لماذا يترقّب ملايين العرب والمسلمين حول العالم، إطلالة “أبو عبيدة”، وينتظرون بياناتِه؟. لماذا يتداول الشارع الإسرائيليّ، مقاطعَ الفيديو لـ “أبو عبيدة”، مُترجمةً إلى العبريّة، رغم الحظر الذي تمارسُه وسائل الإعلام الصهيونيّة، لبلاغات “أبو عبيدة”، بإيعاز من الرّقابة العسكريّة هناك. من أهمّ لوازم “فنّ الإلقاء”، لتوصيل الفكرة أو الرسالة المُبتغاة من الخطبة، والتأثير على المتابعين.. “مواجهة الجمهور”. في حالتنا الماثلة (أبو عبيدة).. نحن أمام مُلثّم، مجهول، غامض، لا يظهر من وجهه سوى عينَيه.. رغم أهميّة وفاعليّة “تعابير الوجه”، ومنها حركة الشفاه، ضمن لغة الجسد، لتوصيل الفكرة ومعانيها، وبثّ المشاعر للمتلقّين. “أبو عبيدة”، مُتخفٍ لدواعٍ أمنيّة مفهومة، ومقبولة من الجمهور، لاستهدافه من الصهاينة.. لكنّه رغم ذلك، يكسر قواعد علوم الاتصال وفنّ الإلقاء.. فهذا “التخفّي”، يصرف انتباه وعقول المتابعين للتركيز على الكلمات والمفردات، ومحتوى الرسالة المُبتغى، ويثير حفيظة الصهاينة؛ لعجزهم عن تفكيك لغز شخصيّته. كلمات الرجل الغامض مُختارة بعناية ودقّة.. محسوبة المعاني والمرامي، تُصيب الهدف مباشرة، دون مطّ وتطويل. بيانات “أبو عبيدة”، تتميّز بحُسن البيان ودقّة المعلومات من ميدان القتال، عن معارك المقاومة مع “جيش الاحتلال”، وبلاغات عن قتلاه، وعن استهداف وتدمير آلياته ومدرّعاته (دبّابات ميركافا 4، وناقلات الجُند النمِر)، الأعلى تصفيحًا وكفاءةً عالميًا. مما يجذب المتلقّين في أرجاء الكون، لمتابعة أبو عبيدة، أنَّ بياناته رصينة.. شديدة التركيز، مفعمة بالحماس والقوّة ورُوح التحدّي.. العبارات والجمل قصيرة، مترابطة، تعلق بأذهان الناس، ويردّدونها، فهو- مثلًا- يُبشّر الكيان الغاصب، بأنّ “زمن انكسار الصهيونيّة قد بدأ”، وأنّ ” زمن التفوّق العسكري والاستخباراتي المزعوم للعدوّ، قد انتهى”. “أبو عبيدة” هنا، لا يُطلق الكلم على عواهنه، فما جرى يوم 7 أكتوبر (عملية طوفان الأقصى)، خيرُ شاهد، وهو معلوم للجميع، موثّق صوتًا وصورة.

بطولات واقعيّة موثّقة صوتًا وصورة

لا تخلو بيانات “أبو عبيدة” من ضربات سياسيّة للجبهة الداخليّة لكيان الاحتلال، بما يربك قادته، ويشعل الشارع.. لا سيّما في ملفّ أسراه لدى حركتَي حماس والجهاد، ويتوعّد جيش الصهاينة بالهزيمة والذلّ والانكسار في المعركة البَريّة الدائرة على تخوم غزّة. تكمُن خطورة “أبو عبيدة”، حال تناوله سيرَ المعارك مع جيش الصهاينة.. في المصداقيّة والموثوقيّة العاليتَين اللتَين يتمتع بهما، فهو لا يهذي بكلام فارغ المحتوى والمضمون.. إنما يكشف في عبارات قليلة موجزة، عن ضربات أوقعتها المقاومة، بالعدوّ، وبطولات واقعية نفّذتها، وليس وعودًا، بأفعال لم تحدث. كما أنّه يبثّ معلومات صحيحة وموثقة، فـ “إطلالات أبو عبيدة”، مسبوقة دائما بـ “فيديوهات وصور” ينشرها الإعلام العسكريّ للمقاومة: (كتائب القسّام، وسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلاميّ)؛ توثيقًا لبطولات رجال المقاومة البواسل في استهداف وقتل وقنص الجُنود الصهاينة.. سواء كانوا راجلين، أو متحصّنين في بِنايات، أو دبابّاتهم وناقلاتهم وجرّافاتهم المدرّعة التي تحترق بهم.

 الرجل الغامض.. وترجمة عِبريّة لبياناته

“المصداقيّة” التي يتمتّع بها الرجل الغامض “أبو عبيدة” بين العرب والمسلمين والمُناصرين للقضيّة الفلسطينية.. مُمتدةٌ إلى قلب الكيان الصهيونيّ المُعادي بطبعه لـ “أبو عبيدة” وللعرب عمومًا، وبلغت منسوبًا عاليًا في الشارع الإسرائيلي، الذي يتداول مقاطع الفيديو لبياناته المحظورة في وسائل الإعلام هناك، لما تمثّله من خطر مُدمِّر على معنويات الاحتلال، جيشًا وشعبًا. “الإسرائيليون”، يثقون بـ “أبو عبيدة” ويصدّقون بياناته، أكثر مما يصدقون جيشهم وحكومتهم، في ظلّ كابوس “طوفان الأقصى” الذي يعيشونه. الشارع الإسرائيلي يصدّق “أبو عبيدة”، رغم إدراكه أنّه يقود حربًا نفسية شرسة وقاسية، لضرب معنويات جنودهم، وتأليب عائلات الأسرى على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وإظهاره غير مهتمّ بحياة أسراهم.. إذ يضغط “أبو عبيدة” للصهاينة على معادلة “أسرانا مقابل أسراكم”.

الوزير الصحّاف.. والاجتياح الأميركيّ للعراق

على سيرة الحروب ورموزها الإعلاميّة، نتذكّر وزير الإعلام العراقيّ (سابقًا) محمّد سعيد الصحّاف (مواليد عام 1940، بمدينة كربلاء العراقيّة)، ومؤتمراته الصحفيّة اليومية إبان الاجتياح الأميركي- البريطاني، للعراق بريًا، وحتى سقوط بغداد (20 مارس/ آذار- نهاية إبريل/ نيسان 2003)، والذي انتهى باحتلال العراق حتّى عام 2011. الملايين (عربًا ومسلمين) شغفوا بـ “الوزير الصحاف”، في إطلالته اليومية لإبلاغ وسائل الإعلام عن سير المعارك ضدّ القوات الغازية. من أشهر تعبيرات الصحّاف.. “العلوج الأميركان والطراطير البريطان.. حبِسناهم جوّا دباباتهم على أسوار بغداد الاعتباريّة”، قاصدًا، أنّ جنود الولايات المتحدة، وبريطانيا يحاصرون بغداد بالدبابات ولا يستطيعون دخولها. وقتها بدت كلمة “العلوج” غريبة على مسامع المتلقّي العربي، وتبيّن أنّها تعني- وَفقًا للمعاجم العربية- رجالًا غلاظًا يشبهون الحمير الوحشيّة. مع سقوط بغداد، قُبض على الصحّاف، ليطلق سراحُه لاحقًا.

نسأل الله العزّة والنصر لغزّة، والرحمة لشهدائها والشفاء للمصابين، وأن يلهم أهلها الصبر على مصابهم.

 

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *