قراءة في خطاب نصر الله (١)… تحذير من دون تهديد

 

   زياد سامي عيتاني

بعد فترة طويلة من “الغموض الاستراتيجي” المتعمد، في سياق الحرب النفسية، ومع قرب انتهاء الشهر الأول من العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة عقب عملية “طوفان الأقصى” يوم 7 تشرين الأول الماضي، أطل الأمين العام ل “حزب الله” السيد حسن نصر الله لأول مرة في خطاب إنتظره كثيرون، باعتباره سيكشف أحد مسارات الحرب وجبهاتها الموازية. وقد إختار توقيتاً دقيقاً لخطابه، بحيث أتى بعد التطورات التي جرت في غزة خلال الأسابيع القليلة السابقة، وأثبتت على الرغم من همجيتها وإجرامها وإعتمادها سياسة الأرض المدمرة، أنه لم يتحقق أي إنجاز عسكري إسرائيلي أو حتى أي هدف سياسي، من شأنهما إعادة الاعتبار ولو جزئياً الى هيبة الجيش الاسرائيلي وبث الروح المعنوية لدى جنوده، وبالتالي منح رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو بعضاً من الثقة السياسية التي إنعدمت تجاهه داخل الكيان الصهيوني، بحيث راهن على تهجير أهالي غزة إلى سيناء، إلا أنه واجه سدين منيعين: بقاء الغزاويين في القطاع على الرغم من الظروف المأساوية والكارثية، والتحرك العربي الذي قادته مصر برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنع أي عمليات تهجير للشعب الفلسطيني ولطرح موضوع حل الدولتين.

خطاب نصر الله الذي دام ساعة ونصف الساعة، وهو الأول منذ الحرب الاسرائيلية على غزة، لم يذهب إلى إعلان الحرب على إسرائيل وتوسيع نطاق العمليات المحدودة بينها وبين لبنان. وتعمد نصر الله عدم إخافة اللبنانيين من الحرب واتساع أفقها، وفي المقابل لم يشأ طمأنة الاسرائيليين، ولذلك أعلن الجهوزية الكاملة في حال حصلت أي تطورات، على الرغم من الإقرار بانخراط “حزب الله” في الحرب، وتعداد أبرز الأهداف التي حققتها الجبهة اللبنانية، بإشغال جيش الاحتلال واستنزافه، وقال: “إن ثلث جيش الاحتلال في الجبهة الشمالية، وتم إشغال نصف القدرات البحرية وربع القوات الجوية ونحو نصف الأنظمة المضادة بالقبة الحديدية وإخلاء نحو 43 مستوطنة قريبة من لبنان”.

ورأى محللون أن الخطاب يظهر أن “حزب الله” لا يريد توسيع نطاق الاشتباك في الجبهة مع إسرائيل، على الأقل في المرحلة الحالية، وذلك لأسباب تتصل بإيران وحساباتها، أو بحسابات أخرى تعمل على إشغال إسرائيل من دون الدخول في حرب واسعة. وعليه، يمكن إعتبار الخطاب أنه لم يكن تصعيدياً بل “تحذيري”، إذ ان المتابعين كانوا مدركين منذ البداية أن خطابه لن يقفز فوق التصريحات الايرانية، التي برّأت طهران من أي دور في هجوم “حماس” في غزة. فهو بدأه بالتطرق إلى السياقات والأسباب التي شكّلت شرارة الهجوم المباغت الذي شنته حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول، وبالتدريج إتجه الى الحديث عن المواقف الدولية والاقليمية، إلى أن تناول قضية تتعلق بإيران، مكرراً موقفها الذي ينفي صلتها بالهجوم وكذلك الأمر بالنسبة الى الحزب الذي يتزعمه، بقوله: “إيران لا تمارس أي وصاية على قوى المعارضة، وأصحاب القرار الحقيقيون هم قيادات المقاومة، ومجاهدوها الذين يخدمون أهدافها”.

وكان لافتاً في الخطاب تحكم نصر الله بإنفعالاته وإجادته وبراعته في إستخدامها حصراً عند مهاجمة أميركا وإسرائيل، في حين كان يعتمد أسلوب الإقناع الهادئ عند سرد مجريات الأحداث وشرحها وتحليلها، ويمكن القول انه بإنتقائه وإختياره للمفردات والجمل كان قد زانها بميزان الصيدلاني أو الجوهرجي، حتى يكون الخطاب بأكمله محاكاً بمجمله تماماً كما يحاك السجاد العجمي. فقد حرص نصر الله على عدم تخوين الدول العربية وكذلك السلطة الفلسطينية، بل على العكس فإنه ومن موقع الحرص على الدعم العربي لغزة، ناشد الدول والأنظمة العربية الضغط لوقف العدوان الاسرائيلي، عبر الدعوة الى استخدام أوراق قوتها الاقتصادية والمصالح التي تربطها بواشنطن وإسرائيل من غاز ونفط ومختلف الامدادات. ؜فبالتأكيد لدى نصر الله معطيات حول المساعي العربية مع الدول الغربية في سبيل الوصول إلى نوع من تفاهم حول إطلاق سراح الأسرى وفرض هدنة مؤقتة إنسانية. وهذا ما يعتبر من وجهة نظره الاستراتيجية إنجازاً وانتصاراً للحركة من منطلق الاعتراف بها، وبالتالي حجز مقعد لها للقيام بدور أساس ورئيس خلال التسويات القادمة.

صحيح أن خطاب نصر الله لم يكن متناسباً مع المشاهد التسويقية والدعائية التي سبقته قبل أيام أو في ما يتعلق بالفترة الزمنية التي مرّت على حرب إسرائيل في قطاع غزة من دون أن يظهر في تصريح أو إطلالة، وبالتالي فإنه كان محبطاً بالنسبة الى مناصريه، الذين اعتبروا أنه لم يتضمن أي رؤية لما يمكن أن يحصل وما هي خطط “حزب الله” للرد على ما يجري في غزة. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن نصر الله كان حريصاً على طمأنة اللبنانيين بكل أطيافهم من منطلق إدراكه أن لبنان يعيش حالة من الانهيار شبه الشامل على الصعد كافة، ما يجعله غير قادر على تحمل أي تداعيات ونتائج لفتح جبهة الجنوب بصورة موسعة، فضلاً عن تيقظه لحالة الانقسام السياسي الحاد، الذي يفقد الحزب الغطاء الوطني الشامل في حال حصول الحرب بين لبنان وإسرائيل. إضافة إلى ذلك، فإن الحزب لا يريد توسيع نطاق الاشتباك في الجبهة مع إسرائيل، على الأقل في المرحلة الحالية، وذلك لأسباب تتصل بإيران وحساباتها، أو بحسابات أخرى تعمل على إشغال إسرائيل من دون الدخول في حرب واسعة.

في الختام، الأمين العام ل “حزب الله” متيقن من أن إسرائيل عاجزة عن إجتياح غزة وإنهاء “حماس”، للأسباب التي تناولناها في مقالات سابقة، فضلاً عن رفض الادارة الأميركية المغامرة الاسرائيلية، بناء لتقارير جنرالات الجيش الأميركي الذين ينسقون مع الجيش الاسرائيلي، وفي موازاة ذلك ليس هناك قرار دولي وإقليمي بفتح الجبهة اللبنانية – الاسرائيلية لتنزلق الى حرب شاملة، الأمر الذي دفعه الى عدم إعلان الحرب على إسرائيل وتوسيع نطاق العمليات المحدودة بينها وبين لبنان منذ أسابيع.

بناء على كل هذه المعطيات، يمكن توصيف خطاب السيد بأنه خطاب تحذيري وليس خطاباً تهديدياً.

شاهد أيضاً

طرابلسي بحث شؤونًا ثقافية مع المرتضى

زار نائب جمعية “المشاريع الخيرية الإسلامية” في لبنان، النائب الدكتور عدنان طرابلسي، وزير الثقافة في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *