واشنطن وبكين.. بين المكايدة والملاينة

د. محمد السعيد إدريس

تقدم واشنطن وبكين نموذجاً جديداً من أنماط إدارة الصراع، يجمع بين ما يمكن اعتباره «مكايدة» تكشف عن وجود نوايا حقيقية للتصعيد في القضايا الخلافية، وبين ما يمكن اعتباره «ملاينة» تعبّر عن نفسها من خلال الحرص على وضع ضوابط لهذا التصعيد عبر الحفاظ على استمرارية «دبلوماسية التواصل»، والحيلولة دون انقطاعها. فقد شهدت الأشهر الثلاثة الماضية، منذ الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن إلى الصين، اندفاعة دبلوماسية أمريكية نحو الصين لكنها اختتمت بتصعيد أمريكي غير مسبوق ضد الصين، في الأسبوعين الماضيين.

بدأت موجة «الملاينة» الأمريكية مع الصين بثلاثة زيارات عالية المستوى، بدأها بلينكن إلى بكين في يونيو/ حزيران الماضي، تبعتها زيارة وزيرة الخزانة جانيت يلين، في يوليو/ تموز الماضي، ثم زيارة وزيرة التجارة جينا ريموندو، في أغسطس / آب الماضي. مثل هذه الزيارات المتتالية وغير المسبوقة كانت تحمل، ولو ظاهرياً، حرصاً أمريكياً على عدم التورط في سياسة تصعيد ضد الصين يمكن أن تدفعها نحو مزيد من التحالف مع روسيا، قد يصل مداه إلى الحرب الأوكرانية التي تحرص واشنطن بكل السبل على إبعاد الصين عن أن تكون طرفاً مباشراً في هذه الحرب، وقد حرص وزير الخارجية بلينكن على أن يتحدث في برنامج فريد زكريا (سي.إن.إن)، عما أسماه ب«الحركة الأمريكية النشطة» تجاه الصين عبر تلك الزيارات، باعتبار أنها «مؤشر على أن الولايات المتحدة تحاول على الأقل أن تضفي بعض الاستقرار على العلاقة مع الصين».

وابتداء من الأسبوع الأول من سبتمبر/ أيلول الماضي، تغيرت السياسة الأمريكية باتجاه التصعيد الذي بدأت مؤشراته بإعلان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، غضبه من عدم حضور الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قمة الدول العشرين الأخيرة التي عقدت في العاصمة الهندية نيودلهي. الرئيس بايدن أفصح عن هذا الغضب، ولم يكتف بلقاء رئيس الوفد الصيني في تلك القمة، بل قال عقب هذا اللقاء إن «الصين تغير بعض قواعد اللعبة»، وغادر نيودلهي متوجهاً إلى هانوي عاصمة فيتنام، قبل اختتام تلك القمة. ولم تمض أكثر من عشرة أيام فقط، حتى كان الرئيس الأمريكي يجمع في قمة غير مسبوقة رئيس الوزراء الياباني فوميوكيشيدا، ورئيس كوريا الجنوبية يون سوك في كامب، ديفيد محورها «مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد». وعقب هذه القمة أعلن السفير الأمريكي لدى اليابان، رام إيمانويل «خلقنا ما كانت الصين تأمل في ألا يحدث».

الجديد الذي تحدث عنه هذا السفير هو تحول الولايات المتحدة من سياستها السابقة القائمة على «تحالفات منفصلة» مع كل من شركائها الآسيويين، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إلى تأسيس تحالفات جماعية.

فعلت ذلك مع كل من اليابان وأستراليا والهند في التحالف الذى يعرف ب«تحالف كواد»، وها هي تتجه لتؤسس لتحالف مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية متخطية كل العوائق التاريخية التي كانت تحول دون التقارب بين كوريا الجنوبية واليابان، وجاء التحرك الأمريكي الثالث ل«احتواء» الصين عبر تقوية رابطة التحالف بين دول «منتدى جزر المحيط الهادئ» الذي عقد اجتماعه الثاني في واشنطن، يومي الاثنين والثلاثاء (25- 26 سبتمبر/ أيلول الماضي)، وقبل هذه القمة استضافت واشنطن اجتماع وزراء خارجية تحالف «كواد» يوم السبت (23 سبتمبر/ أيلول الماضي).

الرئيس بايدن فاجأ قمة منتدى جزر المحيط الهادئ بإعلان اعتراف الولايات المتحدة بجزر كوك ونيوي، مشيراً إلى أن هذه الخطوة ستساهم في دعم «منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومنفتحة»، موضحاً أن تاريخ ومستقبل جزر المحيط الهادئ والولايات المتحدة «مرتبطان بشكل لا ينقص، والاعتراف بجزر كوك ونيوي وإقامة العلاقات الدبلوماسية لن يؤدي إلى تعزيز العلاقات فحسب، بل سيساعد في ضمان أن يكون مستقبلنا المشترك أكثر أمناً وازدهاراً».

بهذا التحالف ستكون الولايات المتحدة أسست لثلاثة مسارات تحالفية، أو ثلاثة أقواس تحالفية تحيط بالمحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين.

كيف سترد الصين على ذلك، وهل سيذهب الرئيس الصيني إلى الولايات المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، للمشاركة في قمة «رابطة دول آسيا الهادى» (أبيك) التي ستعقد في سان فرانسيسكو، أم سيعتذر على نحو ما فعل في الاجتماع الأخير لقمة العشرين؟ لم تفصح بكين بعد عن ذلك.

 

 

شاهد أيضاً

إردوغان والأسد إن التقيا “قريباً”.. في بغداد أم أبو ظبي؟

  توفيق شومان تبدو المساعي العربية والإيرانية والروسية في سباق غير معهود لإنتاج تسوية سورية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *