( إقرأ )…

*للشيخ رائد سعدي التميمي 

القراءة والكتابة والاطلاع. والتسليم لأوامر الله سبحانه والأنقياد. من الأمور الأساسية لبناء عقل الإنسان وتكامل شخصيته وفهمه وتدبره واخلاقه وثقافته. وقد رفع الله تعالى (بإقرأ) أمة لا تقرأ. وجعلها من خير الأمم.

فيعلم الإنسان من (إقرأ) حقيقة الحياة الدنيا وحقارتها وأنها لعب ولهو وزينة وتفاخر لا تساوي شيئا وهي إلى زوال وفناء.
ويعمل (بإقرأ) لآخرته في طاعة الله ورسوله حتى يدخل جنة الخلد بأمن وسلام. ويتلذذ بنعيمها المقيم في أعلى الجنان.
ويتعلم من (إقرأ) ما يتلائم مع العقل والمنطق. فيبدع في مجال الأعمار والبنيان. وخدمة المجتمع والإنسان.

وأول ما أنزله الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم كلمة (إقرأ). لعظيم معناها ومبتغاها ومبناها ومقتضاها. فهذه الكلمة تعرف الإنسان بفطرته على ربه الذي خلق! وكيف خلق! وعظيم كرمه وتعليمه ما لا يعلم.

لذا أرسل الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم النافع والعمل الصالح : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } بالعلم الذي يهدي إلى الله تعالى وإلى دار كرامته، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة.

فالدين الذي يدان به، ويتعبد لرب العالمين هو حق وصدق، لا نقص فيه، ولا خلل يعتريه، أوامره غذاء القلوب والأرواح، وراحة الأبدان، وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد، كلما ازداد العاقل تفكرا وتأملا، ازداد به فرحا وتبصرا.

فإذا أردت العزة في الحياة الدنيا (فإقرأ) . وإذا أردت النجاة والرفعة في الآخرة (فإقرأ) . وإذا أردت نفع الناس وإصلاحهم (فإقرأ) . وأذا أردت بناء الوطن وإزدهاره (فإقرأ).

وإلا فلا معنى لحياتك إن لم تتعلم وتقرأ وتكتب وتعمل وتدعو وتصلح وتبدع. وتكون فردا إيجابيا نافعا في المجتمع.
ففي الحديث: “إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير”.

وهنا.. بعد هذا التقديم يجب التحذير؟! فليس كل ما يقرأ يغذي العقل وينير البصيرة. فمن القراءة ما يعمي القلب ويضلل العقل. فإياك وعلم الكلام والفلسفة كما يصفونه. فهي مزينة بهذه العبارات لأقناع الدعاة والباحثين والمثقفين للولوج في ضلالها وانحرافها ومتاهاتها.

فالفلسفة عند أنصارها كما يعرفها د. توفيق الطويل هي “النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تفرض عليه من الخارج ، وقدرته على مسايرة منطقه إلى أقصى آحاده، وإذاعة آرائه بالغاً ما بلغ وجه التباين بينها وبين أوضاع العرف ، وعقائد الدين ، ومقتضيات التقاليد ، من غير أن تتصدى لمقاومتها أو التنكيل بها سلطة ما “. وهل ضلال أكثر من هذا التعريف. الذي يعلن به صراحة وبكل صلافة. ضرب التنزيل من الوحي إذا لم يوافق عقولهم القاصرة السقيمة.

ولا زالت للفلسفة اليونانية روافد في كافة الفلسفات والدعوات الغربية القديمة والحديثة، بل وتأثرت بها معظم الفرق الإسلامية المنغمسة في علم الكلام. وذكر الإمام السفاريني في لوامع أنواره: أن أول من بدأ بتعريب الكتب الفلسفية هو المأمون كان مولعاً بحب الكتب وبجمعها، ولما فتح الله تلك الديار كانت النتيجة أن حملوا كتبهم معهم مخافة أن يأخذها المسلمون، فأرادوا أن تبقى عندهم ليستفيدوا منها.

فكتب المأمون إلى ملك قبرص يطلب منه هذه الكتب، فجمع من حوله ممن يشار إليهم بالبنان يستشيرهم في هذا الأمر، أيرسل الكتب إليهم أم لا يرسلها؟ فجلهم قالوا: لا نرسل الكتب إليهم أبداً، فهي تراثنا، وحصيلة آبائنا وأجدادنا وعلمائنا. إلا رجلاً منهم قال: إني أرى أن ترسلوا هذه الكتب إليهم. قالوا: وما بالك؟ قال: إن هذه الكتب ما دخلت على أهل دين سماوي إلا أفسدت دينهم.
ولقد كان المأمون تلميذا لأحد شيوخ المعتزلة، وأطلع من خلاله على كتب الفلاسفة اليونان. وعربت هذه الكتب، وقام المعتزلة بنصرها، ونشرها، وتدريس قواعدها، وتأصيلها، مما أدى إلى الانحراف العظيم. فهذه الكتب ما دخلت ديارا ألا خربتها وتيهت عقول أهلها وحيرتها. وبالتالي حرفتها عن أصول دينها ومبادئها وثوابت شرعها الحصين.

فالفيلسوف عند أرسطو أعلى درجة من النبي. لأن النبي بزعمه يدرك عن طريق المخيلة. بينما الفيلسوف يدرك عن طريق العقل والتأمل. لذا قدم الفلاسفة العقل بتقديسه على النقل الذي جاء به الوحي. لقد بنى أصحاب هذه الأفكار موقفهم على أن العقل هو أساس النقل، فقالوا بالعقل عرفنا ربنا. وبالعقل عرفنا صدق نبينا، ومن هنا يجب تقديس العقل وتقديمه على النقل. وعند بعض الأسلاميين ممن هم أقل شرا قدموا العقل وأولوا النقل.
ولكنهم لا يعلمون أن الله سبحانه أودع الفطرة في قلوب الناس. ومن هنا جاءت العقول موافقة لهذه الفطرة ومنقادة للنقل الصحيح. وهذا ما بينه الله سبحانه بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: “ما جهل الناس واختلفوا إلا بتركهم مصطلح العرب وأخذهم بمصطلح أرسطو طاليس.

لهذا العقلاء من العرب في زمن الوحي بمجرد ما يسمعون نقل النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن عن طريق الوحي ليدعوهم. يسلمون مباشرة ويؤمنون به وبدعوته. لأنها وافقت فطرتهم وعقلوها. مع أن كل الدلالات العقلية تشير إلى تقديس الوثنية وتقديم دين الآباء الأجداد. إلا المتكبرين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم يقينا بنقله وصدق دعوته. نصرة لعقولهم الوثنية ودين آبائهم وأجدادهم. وادعوا زورا وبهتانا أنه ساحر ومجنون.

وفي الغرب حديثا مع أن الناس ليسوا بعرب ولا يفهمون كلام الله تعالى في القرآن. فهم يستجيبون بسرعة ويسلمون بكثرة. ويتمسكون إيمانا بالدين على الفطرة وبقوة. بمجرد ما يصلهم ولو القليل من النقل الصحيح. تنقاد عقولهم الصريحة مباشرة لأنها وافقت فطرتهم التي أشهدهم الله تعالى عليها وهم في صلب آدم عليه السلام .

مع العلم أن كل الشواهد والوقائع في مجتمعاتهم من انفتاح وثقافات ودعوات علمانية ونصرانية. تدل عقليا على خلاف النقل الصحيح الذي يدعوهم إليه الإسلام. فالعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، فإن اختلفا. فلابد أن النقل غير صحيح، وإما أن العقل غير صريح، وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الأصول العقدية المعروفة.

وأخيرا رأيت في كتابة هذه المقالة المبسطة وبإختصار ليتنفع منها الطبقات المثقفة الواعية والقدوة الداعية بين الناس. من شبهات هذه الأفكار الدخلية على ثوابت ديننا وفطرتنا لئلا تتأثر بها. فقد غلب على بعض الفرق الإسلامية وللأسف النزعةُ العقلية فاعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل،

فقالوا بالفكر قبل السمع، ورفضوا الأحاديث، وقالوا الحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، فالعقل بذلك موجبٌ، وآمرٌ وناهٍ، فنفوا صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه بنص القرآن والسنة. بقولهم إن الله عالم بذاته وقادر بذاته وحي بذاته. وهذه من الشبهات التي وقع بها كثير من الفرق الإسلامية بسبب الخوض في علم الكلام والفلسفة وللأسف.

ولأن أغلب الناس تجهل أصول الدين وعلم الفروض والوجبات. تغلغلت هذه الشبهات في نفوسهم بكل سلاسة من حيث لا يشعرون. وأيضا لما تركوا القراءة والكتابة وصار شغلهم الشاغل الجوال الذي لا يقع من أيدهم إلا عند المنام. ويقلبون في مواقع التواصل بين الإلحاد والشبهات الشهوات وهم لا يعلمون خطرها وضررها عليهم. إلا قليلا منهم ينتفعون منه. وبه ينشرون العلم والمعرفة والثقافة والدعوة في المجتمع لصالح الأعمال.

(فإقرأ) ياطالب العلم واطلع واكتب وابحث واحرص على انتقاء ما تقرأ وتكلم بما ينفع. وكن حارسا أمينا على بوابة قلبك. فما كان صحيحا نافعا قيما موافقا للشرع والدين والخلق. فخذه وأدخله قلبك واعمل وانتفع منه وأنفع به. وما كان مخالفا فاردده ولا تلتفت إليه. وأرجع لمن له علم صحيح من (إقرأ) واستشره في أمور دينك ودنياك. فما ندم ولا خاب من استشار.

لذا صار لزاما علينا كشرعيين وإعلاميين ومثقفين وأكادميين. بل هو من الواجب تحذير الناس وخصوصا الشباب من هذه الأفكار المنحرفة التي تدس السم في العسل. وتفسد ولا تصلح وتضل ولا تهدي. لذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: “الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء”.

نسأل الله السلامة والعافية من هذه المنزلقات الخفية الخطيرة. ومن الله تعالى السداد والتوفيق والحمد لله رب العالمين.
١٤ من ربيع الأول ١٤٤٥ هجري
الموافق ٢٩ من أيلول ٢٠٢٣ م

شاهد أيضاً

“ هواوي” وهجومها العكسي على العقوبات الأميركية

نعمت الحمد كانت شركة “هواوي” متفوقة على العالم في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، ما مهّد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *