يوميات نازحة من الخرطوم (1)

بقلم / اقبال عبدالرحيم عبدالله الحسيني / السودان

ربما يكون اليوم  بداية اسبوع او منتصفه،، لا أعرف في أي يوم نحن،، فالأيام متشابهة منذ الطلقة الأولى في الخامس عشر من شهر أبريل الماضي،، تحولت الخرطوم بين يوم وليلة إلى ساحة قتال لا تسمع فيها سوى أصوات الرصاص. انطفا ذلك البريق الذي يميزها الحركة والحياة،، أصوات العربات المنطلقة في شوارع المدينة، الباعة المتجولون في الأحياء.  صوت النسوة يصبحن على بعضهن البعض عند بائع الخضار المتجول،، هنا يعرفن أخبار كل ما يدور داخل الحي . في الشارع الرئيسي تنطلق   أبواق السيارات وهي تعلن عن بداية يوم مدرسي جديد،والطلاب في همة ونشاط يتدافعون نحوها . يا إلهي  تحول كل شي في لحظة فارقة  إلى صمت رهيب ومخيف ما عدا أصوات القذائف الصاروخية. أصبحت الخرطوم مدينة للاشباح،، الكل غادر في محاولة للهروب ولكن لا سبيل الطرقات مغلقة ارتكازات قوات الطرفين في كل جانب.
الخرطوم  مدينة  الجمال والألفة والمحبة،، ملتقى النيلين ،، َمدينة التماذج العرقي والاثني وقبلة كل السودانيين بمختلف مشاربهم ،، فهي سودان مصغر  ،،  تترك لك انطباع دائما لا يمحى،، قالها الشاعر نزار قباني عن انطباعاته عن السودان وأهلها، وقد زارها مرتين الأولى عام 1968، والثانية عام 1970. وحظي في كلتيهما باستقبال حافل، كتب بعدها يقول: «يسمونني في كل مكان شاعر الحب، ولكنني هنا أشعر أنني أسقط في الحب للمرة الأولى، فالسودان بحر من العشق أغرق جميع مراكبي وأسر جميع بحّارتي».
ولكنها الان اصبحت  مدينة الخراب طمست كل  ملامحها  بسبب الحرب العبثية اللعينة. وتقارير البعثة الأممية تشير ان عدد من هجروا قسرا من منازلهم ومدنهم أو بحثا عن الأمن والطمأنينة نحو 4 ملايين مواطن داخل السودان أو جواره الإقليمي، بسبب  الحرب وانعدم إمدادات المياه والكهرباء في  أجزاء واسعة من مدن العاصمة الخرطوم.

وماطوعا تركناها الديارا
ولكن كان غصبا وارتعابا
وقد دخلوا علينا ونحن عزل
واستلبوا ودائعنا استلابا

حاولت كغيري الهرب من جحيم الحرب،، وكان ذاك الصباح المحزن بعد إعلان طرفي الصراع هدنة قصيرة،، انها الهدنة السابعة وربما أكثر أو أقل لا أدري والتي قررنا فيها الخروج من منزلنا.  رغم انهيار كل الهدن السابقة التي إعلانها الطرفان في منبر جدة. منبر جدة هي آلية للتفاوض بين الطرفين ،  ترعاه حكومتا المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية ، لحل الأزمة الحالية ، إذ أنه نجح في قيادة مفاوضات غير مباشرة بين وفدي الجيش السوداني  والدعم السريع، وظلا مرابطين هنالك. وجرى التوصل من خلال المنبر إلى عدة هدن، رغم أنها لم تكن ناجحة لكنها أثبتت إمكانية الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
تلفت حولي كيف اترك منزلي وطني الصغير بكل مافيه،، اووه يا عصافيري،، تذكرت ذاك  المشوار من الخرطوم إلى اسواق ام درمان  وهو من الأسواق الشعبية المشهورة في السودان،، فيه سكك ودروب،، سوق الصاغة،، سوق العدة للاواني المنزلية،، سوق السمك والجزارة،، وسوق مخصص في شوارعها  لبيع جميع انواع العصافير. تأسست سوق العصافير منذ ما يقارب أربعة عقود ونصف، ولا تزال تحتل مكاناً صغيراً في مدينة أم درمان، تتشكل من دكاكين تفتح على شوارع ضيقة نسبياً،، يتجول بعض الباعة على طول طرقاتها،، كان يوما ممتعا وسط الباعة المتجولين يحملون اقفاص بعصافير ملونة تزقزق وترفرف أجنحتها تطالب بالحرية ولكننا لحظتها هواة نحب اقتناءها،، الان عرفت المعنى الحقيقي لتكون حرا،، ستكون حرة عصافيري الجميلة وتنطلق في الفضاء الرحب رغم خوفي من إصابتها  برصاص طائش،، اعتصر قلبي الألم عندما فتحت اقفاصها لتحلق في الفضاء عاليا وتحمل معها  قلبي وروحي تسمرت في مكاني ولوحت لها مودعة ،، نزلت دمعة حرى من مقلتي مسحتها بكف يدي حتى الدموع أصبحت تتجمد في منتصف الطريق كامنياتنا واحلامنا. نظرت إلى شجيراتي المورقة،، اعرف بأنها ستذبل  حتى الموت،، لم يتركوا لنا خير لسقيتها بوفير الماء،، احتضنت جذع كل واحدة منها،، تحت شجرة النيم هذه شهدت احتفالا بعيد ميلاد اول أبنائي ومن حولنا الاهل في ظلالها الوارفة وكثير من الذكريات نحتها حولها وتواريخ لمناسبات عائلية مختلفة. الجميع  في الخارج يحثونني على المغادرة. وقفت أمام مدخل منزلي القيت نظرة أخيرة ولوحت مودعة وفي داخلي حزن مقيم  مع أمنيات بالعودة.
كلنا امل في انتهاء الحرب،، والحرب كما يقول ميخائيل نعيمة “الحرب لو يعلمون لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع , بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضاً.  تحرك موكبنا الحزين إلى وجهة مجهولة،، ووجدت نفسي اردد بعض ابيات من  قصيدة الشاعر السوداني محمد الحسن حميد :

“” قتلوك الناس القصر
الناس المأفونين
الساسة المبيوعين
قتلوك خدم الراسمال
يازول ياعاتي يازين
الفرحوا الامريكان
والربحوا تجار الدين””.

اقبال عبدالرحيم عبدالله الحسين
السودان 28 سبتمبر 202‪3

شاهد أيضاً

“ هواوي” وهجومها العكسي على العقوبات الأميركية

نعمت الحمد كانت شركة “هواوي” متفوقة على العالم في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، ما مهّد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *