من أيلول 1993 و”قتال أسيادهم”.. كيف بات التطبيع خارج دائرة التأثير؟

عباس محمد الزين

الاحتلال الإسرائيلي بات يدرك، بحكم التجربة، أن التطبيع لا يفرض وجوده في المنطقة، بل ما يفرضه هو هزيمة محور المقاومة، وأن مسارات التطبيع لن تقدّم الأمن إليه، ولن تعطيه ما عجز عنه في حروبه.

في أيلول/سبتمبر من عام 1993، عندما وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية “اتفاق أوسلو” لتطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، خرجت تظاهرات في العاصمة اللبنانية رفضاً لذلك. خلال التظاهرات، استُشهد مواطنون لبنانيون تم إطلاق الرصاص عليهم. حينها، خرج لبنانيون في الضاحية الجنوبية لبيروت يهتفون “يا شورى يا أفاضل، نريد أن نقاتل”، في الإشارة إلى شورى حزب الله. الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، الذي كان استلم القيادة حديثاً، بعد استشهاد السيد عباس الموسوي، توجَّه إليهم بالقول: “سنقاتل أسياد هؤلاء”! قاصداً بذلك أسياد من أمر بإطلاق النار على الرافضين مسارَ “أوسلو”.

عندما نتحدث عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، كونه مساراً، فإن مواجهته هي أيضاً مسار. لذلك، فإن محور المقاومة، في كل فصائله وتوجهاته، كان ملزَماً باتخاذ عدة مسارات خلال المواجهة، أبرزها:

الأول يتعلق بالكيفية التي يستطيع، من خلالها، العمل على إخراج التطبيع من أي تأثير في الفعل المقاوِم.

– الثاني يتعلق بتقديم النموذج المضادّ، والذي يؤمّن مصلحة الشعوب في العداء لـ”إسرائيل”، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

– الثالث أن يحافظ محور المقاومة على تراكم القوة، والذي يجعل أي نظام يريد التطبيع مع الاحتلال، أو تشكيل تحالف عسكري معه، متردداً وخائفاً على مصالحه، في حال هدّد المقاومة.

لا شكّ في أن خروج مصر من الصراع مع الاحتلال، وتوقيعها اتفاق تطبيع في عام 1978، كان شديد التأثير في الصراع نفسه بسبب ما كانت تمثله مصر جمال عبد الناصر من قوة عسكرية وقوة سياسية، داعمتين لحركات التحرر ضد الهيمنة الأميركية، التي من ضمنها “إسرائيل”. التطبيع، في حينه، شجّع الاحتلال على اجتياح لبنان، وتثبيت احتلاله للأراضي العربية، ومواصلة ارتكابه الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.

في الفترة التي ظنت “إسرائيل” أنها قادرة على الهيمنة والسيطرة بصورة مطلقة على ساحة فارغة، ظهرت حركات مقاومة على امتداد العالم العربي، وبطبيعة الحال في داخل فلسطين، بالتزامن مع تمسك سوريا بموقفها المعادي للاحتلال، ومع ظهور إيران الثورة، بقيادة السيد روح الله الخميني. وجاء “أوسلو” ليؤكد الخيارات ذاتها، لكن مع تحديات جديدة. لذا، عملت المقاومة، خلال العقود الـ3 الماضية، على تثبيت الحالة المقاوِمة كخيار وجود في الدرجة الأولى؛ أي أن مواجهة “إسرائيل” ليست مواجهة سياسية فقط، بل مواجهة في سياق البقاء أيضاً.

ولأن الصراع، في الأصل، هو صراع خيارات، فإن تصاعد المقاومة وتصعيد عملياتها ومراكمة قوتها أخرجت دائرة التطبيع بين مصر والاحتلال من دائرة التأثير، بحيث إن “إسرائيل” لم تستفد منه في المرحلة اللاحقة لتوسيع هيمنتها، بدءاً بسقوط “اتفاق 17 أيار” التطبيعي في لبنان مع بعض القوى اللبنانية، نتيجة لانتفاضة “6 شباط”، وما تبع ذلك من الانسحاب إلى الشريط الحدودي، وصولاً إلى الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة، والتي عوّضت، بصورة كبيرة، من خروج منظمة التحرير من لبنان، وأيضاً، الانتفاضة الثانية وتراكم العمل المقاوِم في الضفة الغربية، مع الإشارة إلى لحظة مفصلية، هي انسحاب الاحتلال من قطاع غزة في عام 2005. فما قامت به المقاومة كان منهجياً، وأدى إلى فرض واقع مغاير لما كان يسعى له الاحتلال من خلال التطبيع، خلال تلك المراحل المذكورة.

السؤالان، اللذان يمكن طرحهما ضمن النقاش، هما: هل كان لتطبيع بعض الأنظمة أو الجهات مع “إسرائيل” تأثير في المواجهة؟ وتالياً، هل تمكنت “إسرائيل” من حفظ أمنها، مستفيدةً من التطبيع؟

الإجابة تتجاوز الـ”لا”، والدليل أن ما حدث هو العكس، بحيث إن المواجهة باتت أكثر صعوبة على “إسرائيل” بعد التطبيع، بالإضافة إلى أن “أمن إسرائيل” بات في خطر أكبر. ببساطة، المسألة لا تتعلق بما كان الاحتلال يسعى له من أهداف، بل بالخطوات التي قامت بها الحالة المقاوِمة من أجل تعطيل تلك الأهداف.

الخطر الوجودي، الذي يتحدث عنه قادة الاحتلال حالياً، والمتمثل بتعدد ساحات المواجهة وبتفكك إسرائيلي داخلي، بدأ يتصاعد ويظهر بصورة أوضح بعد ما سُمِّي “صفقة القرن”،وبعد اتفاقيات التطبيع، التي سُمِّيت “اتفاقيات أبراهام” في عام 2020. تمكنت المقاومة في فلسطين المحتلة وخارجها، من تفريغ التهديدات، التي كان يجب أن تمثّلها تلك الخطوات، من محتواها، فباتت خاوية في المضمون، مع احتفاظها بالشكل. والأهم، ما كان يُفترض به أن يكون تأثيراً أمنياً داعماً لحضور “إسرائيل” في المنطقة، ارتدّ عكسَ ذلك على “إسرائيل” والدول المطبِّعة معها.

كان التعويل الإسرائيلي كبيراً جداً في عام 2020 على أن تكون اتفاقيات التطبيع المبرَمة مفصليةً وتاريخية. وبينما كانت عمليات المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية كفيلة بإسقاط “صفقة القرن” (طبعاً بالتزامن مع الرفض الشعبي لها)، فإن التعاون بين فصائل المقاومة ومحورها، من صنعاء إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق والقدس، كان كفيلاً هو الآخر بإسقاط أي تأثيرٍ أمني أو عسكري أو حتى سياسي لتلك الاتفاقيات في المنطقة، والذي كان سيرتدّ سلباً على القضية الفلسطينية. وتجدر الإشارة، إلى أن رفض “صفقة القرن” لم يرتبط فقط بمنطق الرفض كموقف مبدئي، بل أيضاً بتوفر أدوات هذا الرفض على صعيد فرضه. وحتى لو اعترف من اعترف بالقدس المحتلة كعاصمة للكيان الصهيوني، فإن العمليات الفدائية فيها مستمرة، والشعب الفلسطيني متمسك بموقفه، ومعه محور المقاومة بكل قوته.. فما الذي يعنيه توقيع ترامب على ورقة مكتوب عليها “القدس عاصمة لإسرائيل”؟

الآن، فإن نتنياهو، في ذروة أزمته الداخلية، التي هي في الحقيقة أزمة “إسرائيل”، في حد ذاتها ككيان، وفي ظل تهديدات متصاعدة تتزايد معها ساحات المواجهة، يُعيد الخطاب ذاته بالنسبة إلى التطبيع مع السعودية، عبر قوله إنه “سيغيّر وجه الشرق الأوسط”. والسؤال، ذو الإجابة الواضحة، هو: ما الذي يمكن أن يغيّره التطبيع مع السعودية في الشرق الأوسط، ضمن المواجهة مع المقاومة؟ وفي الوقت الذي لم تستطع “إسرائيل” فرض حضورها على شعوب المنطقة، من خلال تطبيعها مع مصر، التي كانت المعنية الأساسية بالصراع، ما الذي ستُضيفه في تطبيعها مع السعودية، التي هي خارج هذا الصراع عملياً، في ظل تصاعد العمل المقاوِم وتطوره؟

اللافت هنا، أن محور المقاومة لا يستند إلى أجوبة تلك الأسئلة في مواجهة التطبيع، بل يعمل ضمن استراتيجية تقوم على مراكمة القوة، بحيث إنه مهما كانت نتائج هذا التطبيع فإن الجاهزية موجودة. وبمعزل عن شكل التطبيع، إن كان ضمن شراكة أمنية أو ما شابه، فإن ارتدادات ذلك، من خلال جاهزية المقاومة، يجب أن تنعكس على المطبِّعين، في حال قرروا ربط مصالحهم الأمنية بمصالح الاحتلال الإسرائيلي.

الاحتلال الإسرائيلي بات يدرك، بحكم التجربة، أن التطبيع لا يفرض وجود “إسرائيل” على المنطقة، بل ما يفرضه هو هزيمة محور المقاومة، وأن مسارات التطبيع لن تقدّم الأمن إلى الاحتلال، ولن تعطيه ما عجز عن تحقيقه في حروبه. ووجه الشرق الأوسط، الذي لم تستطع “إسرائيل” أن تغيّره بدعمٍ أميركي، في عدوانها عام 2006 على لبنان، لن يتغيّر عبر التطبيع مع السعودية، التي تحاول الخروج من حرب فاشلة ضدّ اليمن. وللمفارقة، فإن صنعاء كان لها الدور الأبرز في تعطيل أي تأثير أمني أو عسكري للتطبيع السعودي – الإسرائيلي المحتمل، لا سيما وأن الأهداف السعودية من الحرب على اليمن، كانت تطال المنطقة كلها.

ولأن أوجه الصراع القائم والمستمر متعددة، فإن المطلوب، إلى جانب تفكيك أي تأثير للتطبيع، تقديم النموذج الذي يضمن مصالح المنطقة وشعوبها، في كل الصعد. وبينما يتذرع المطبعون والصهاينة بأنهم يقدمون، من خلال مسارهم هذا، الرخاء إلى المنطقة، اقتصادياً واجتماعياً، تبقى مسألة تقديم النموذج الحقيقي وتنفيذه مهمة جداً ضمن المواجهة، وعدم التعويل فقط على فشل الخطط الإسرائيلية الأميركية فيما يخص ذلك. بمعنى أدق، فإن الرافض للتطبيع عليه أن يشعر بأنه يدافع عن مصالحه، ولا يفرّط بها نتيجة لخياراته. وهذا الأمر تتم ترجمته من خلال التعاون المباشر بين الدول والجهات المنخرطة في الصراع.

لعلّ حديث السيد حسن نصر الله الأخير بشأن إمكان المواجهة المباشرة مع الأميركي في منطقة شرقي الفرات في سوريا، إذا ما أرادت واشنطن إغلاق الحدود وفصل سوريا عن العراق، يُوضح هذا الأمر؛ أي أن المواجهة ستتحول إلى إقليمية مباشرة، في حال استمرت واشنطن في عرقلة مسار التعاون بين دول المنطقة، انطلاقاً من أن فتح الطريق من السعودية إلى حيفا المحتلة، وإغلاق الطريق بين سوريا والعراق، سيترتب عليهما رد فعلٍ، ذكره السيد نصر الله تحت عنوان “مصالح شعوب المقاومة”، في ظل النهب الأميركي للثروات أيضاً.

تُثبت التجارب أن التطبيع بات خارج دائرة التأثير فيما يخص المواجهة بين “إسرائيل” والحالة المقاوِمة في المنطقة، والتي تتوسع وتتعزز وتطوّر قوتها. صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، في 7 آب/أغسطس الماضي، قالت إنه “ليس لدى إسرائيل الكثير لتستفيد منه من جرّاء التطبيع من السعودية”، بل إن “نتنياهو فقط هو المستفيد”، بينما “يتطلع بايدن إلى إنجاز مع اقتراب الانتخابات الأميركية”. يمثّل التطبيع بصورته الحالية مصلحة “أفراد وأحزاب” ضمن حدود الخلاف الانتخابي، بعد أن كان الهدف منه صورة مغايرة لمنطقة غربي آسيا، يسعى لبلورتها الأميركي. وبعد أن كانت “إسرائيل” تسعى إلى التطبيع لحماية أمنها، يمكن ملاحظة أن المخاطر على أمنها تتزايد مع التطبيع (فقط، قراءة بسيطة لارتفاع العمليات في الضفة الغربية والقدس بعد عام 2020 توضح ذلك).

بعد 30 عاماً على أحداث طريق المطار في العاصمة اللبنانية، بيروت، ضد “مسار أوسلو”، تُثبت المقاومة، كحالة إقليمية فريدة بكل مكوناتها، أنها أكثر وعياً وجرأة وإدراكاً لحدود المواجهة، وضد من تقاتل، فأبقت نفسها في وسط الدائرة كمركز ثابت في المواقف، لكنها ضيقّت قطرها على “إسرائيل”، حتى أخرجت التطبيع وتأثيراته منها.

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *