عن خدعة اشتراط اللامركزية للتفاهم مع “الحزب”

كتب مصطفى علوش في نداء الوطن:

«فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها

 

كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغول

 

وَما تَمَسَّكُ بالوصل الَّذي زَعَمَت

 

إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغرابيل

 

كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلاً

 

وَما مَواعيدُها إِلّا الأباطيل» (كعب بن زهير)

 

قضية التحكيم في معركة صفين مشهورة، وإن اختلف التأويل فيها بين سنة وشيعة. حقيقة التفاصيل بخصوص طرفي النزاع وطريقة حله، أو بالأحرى تركه معلقاً وسبباً للنزاع، بقيت تستند إلى تقاليد كلامية متوارثة بين الألسن والآذان لأجيال عدة، كتبت على أقرب تقدير بعد قرن ونصف من الحدث الافتراضي. ورغم ذلك، فإنّ أدبياتها ما زالت حتى يومنا هذا تسيطر على الجدل الفقهي، وأحياناً كثيرة الدموي، بين سنة وشيعة.

 

باختصار، فإنّ قضية التحكيم تختصر عملية الخداع والتقية في المفاوضات، حيث يخادع الخصوم بعضهم البعض من خلال الغش في التفاصيل والوعود المنوي نكثها مسبقاً. لن أستفيض، في شرح قصة التحكيم، لكن التاريخ يتجدد في أحداث مشابهة، مع أني لست ممن يعتقدون بأنّ التاريخ يعيد ذاته، لكن المؤكد هو أنّ البشر لا يعتبرون، ويظن بعضهم، إن اعتبروا، أنّهم أفطن ممن سقط قبلهم في لعبة مماثلة. لكن البشر أيضاً يحتاجون لبعض الثقة بالآخر، لتستمر الحياة اليومية. من هنا يتجدد احتمال السقوط مع كل عهد أو وعد أو وثيقة، رغم أنّه «من جرّب المجرَب كان عقله مخرّب!».

 

لا شك أنّ «حشرة» وريث الإمبراطورية العونية عظيمة، فقد كان يظن أنّ الظروف التي أتت بالإمبراطور الأول إلى سدة الرئاسة ستستمر إلى حين توليه العرش، لكن، لعن الله النظام البرلماني التوافقي الذي أتى بالعم في غفلة من الزمن إلى موقع مغتصب، لكن هذا النظام ذاته يقف في وجه الوريث اليوم لكي لا تتحقق أوهامه. لا يعني أنّ النظام هو السبب الوحيد، بل أنّ الشخصية الزئبقية والتبجح والطمع والتمادي في استنفار العداوات، جعلت من إمكانية دخوله في تسويات جديدة شبه مستحيلة.

 

هذا ما دفعه إلى التلوّن بشتى المواقف، يميناً ليبتز يساراً، ويساراً ليستدرج يميناً. من هنا فإنّ الموقف «السيادي» البهلواني بتأييد مرشح المعارضة في مراحل سابقة، كان لإقناع «حزب الله» بجديته في المساومة، وليس في الرفض. فقد اعتاد «الحزب» على طاعة أتباعه وحلفائه باعتبار أنّه سلّفهم مكاسب كثيرة تفوق قدراتهم ومؤهلاتهم، ما يعني أنّ الدفع قد تم سلفاً وما على «الحليف» إلا التنفيذ من دون مساومة.

 

قال لي شاهد عيان إنّ أحد الأتباع، من مهربي البضائع وغيرها من الأعمال المخالفة للقوانين، والمحمية أعماله من «الحزب»، إمّا بالشراكة في المرابح، أو بضمان التأييد في الموقف، أو مزيج من كل ذلك، قرر الترشح للانتخابات ضد إرادة «الحزب». عندها أتى مسؤول من الدرجة الثانية ليقنعه بالحسنى بالعزوف عن الترشح من أجل «المصالح المشتركة للممانعة»، حاول المرشح المكابرة على سبيل المساومة، فقال له المسؤول الحزبي، بعد اتصال بالقيادة، «نقول لك أنك قبضت سلفاً، وتغامر الآن بخسارة ما ستكسبه لاحقاً!». بالطبع فإنّ المرشح «القبضاي» انسحب في اليوم التالي، وما زالت أعماله قائمة وتجارته رابحة. ما كان «الحزب» يتمناه من جهة وريث العرش العوني هو موقف «شهم» و»ممانع» بتأييد المرشح المطلوب بشدة لكونه من حملة لواء الممانعة، من دون جدل أو مساومة. الموقف «الشهم» كان على أساس أنّ «الحزب» قد سلّف الإمبراطورية العونية برئاسة الجمهورية، كما سلفها بتعطيل الحكم والحكومات «من أجل الصهر»، وسلفها أيضاً بضمان الهيمنة على قطاع الطاقة الذهبي، وغيره من تغطية الملفات الدنيئة التي تجرم الطرفين، فيغطي كل واحد منهما على الآخر.

 

ما يعلمه «الحزب»، ويعلمه الوريث، أيضاً، هو أنّ قبول وجود رئيس، غير الوريث، بشروط أو من دون شروط، يعني نهاية الإمبراطورية العونية المتداعية أصلاً. من هنا وضْع دفتر شروط تعجيزي، سيأتي بالرئيس مشلولاً، وهو ما لن يقبله إلا تابع من أتباع الوريث. وحتى وإن قبل المرشح بالشروط قبل الانتخاب، فلا شيء يضمنها بعده. فالوريث وعمه نكثا عهوداً قطعاها سابقاً في اتفاق معراب، بعد أن بلغ الوطر. لكن الوريث، في الوقت ذاته، لا يريد قطع حبل السرّة مع «الحزب»، طالما أنّه الملاذ الوحيد، فكان من الضروري الحفاظ على شعرة معاوية والاستمرار في التواصل واستدراج العروض الجديدة والمبتكرة.

آخر الصرعات كان في ما روّج له في الإعلام عن اشتراط الموافقة على اللامركزية الموسعة من قبل «الحزب» ثمناً لتسهيل وصول مرشحه إلى الرئاسة. لماذا اختار الوريث هذا العنوان؟ لأنّ الموضوع منتشر في الأوساط المسيحية، وبالتالي فإنّ مساوماته ستأخذ بعداً مطلبياً مسيحياً عاماً، بدل انحسار الأمر في المطالب الشخصية. لكن الصرعة الحقيقية هي استحالة تحقيق مسألة اللامركزية المالية والإدارية في ظل الوضع البرلماني والرئاسي الحالي بشكل يسبق انتخاب الرئيس.

هذا يعني أنّ الوريث يغطي مطالبه الحقيقية، أي وزارتي الطاقة والخارجية، على الأقل، إضافة إلى مسائل متفرقة أخرى، بوعد من «الحزب» ببحث أمر اللامركزية في وقت من الأوقات! وهكذا فإنّ بزرة الوريث مع «الحزب» ستأخذ شرعية مطلبية عامة. لعبة مكشوفة، لكن هل هناك من يصف تلك الألاعيب بالعيب؟ الواقع هو أنّه طالما هناك من الجماهير من يعتبر ألاعيب القائد نوعاً من الدهاء السياسي وليست مجرد تجارة، ورغم أنّ تلك الجماهير أدركت أنّ الطرف الخاسر في التحكيم هو دائماً الناس الذين يظنون، رغم سابق الخيبات، أنّ زعيمهم على حق.

شاهد أيضاً

أسئلة مهمة بحاجة إلى تفسير

  – 1- لماذا يوجد هرم مصري على الدولار الأمريكي ؟ – 2- لماذا وقعت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *