طلال سلمان: الذي لم تعرف له مهنة إلا الكلمة طلال سلمان وداعاًً

كتب ناصر قنديل 

تقمّص طلال سلمان اللغة وتنفّس حروفها، وسالت حبراً بين شقوق يديه فتدحرجت كلمات على الورق. وكان ينزف مع الكلمات بعضاً من روحه. فعندما كتب عن بيروت التي تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء، لم تكن بيروت قد قرّرت بعد ما قرّره عنها، فقد كان قادتها يظنون أن معهم مزيداً من الوقت للتفكير قبل القرار، لكن طلال سلمان سبقهم ورسم الخلاصة التي سوف تكون. فهو كان يكتب عن روحه التي ترفض الهزيمة والاستسلام، ولأن بيروت هي روحه فقد كتب ما كتب، لكنه كان بكلماته يؤسس للوعي الذي سوف يدخل مع حروفه إلى عقول وقلوب تتنفس حياتها وحريتها وكرامتها ووعيها عبر صفحات “السفير”. وهكذا كانت تتحوّل كلماته رصاصاً بين يدي خالد علوان في مقهى الويمبي، ويتساقط ضباط الاحتلال، فيأخذها طلال سلمان حجة لإثبات صحة ما كتب، ويزيد من زخم كلماته، ثم تجول الكلمات على الطرقات والبيوت والقرى وأحياء المدينة، تفتش عن شباب وصبايا مستعدّين لحمل آلام الحروف ومداواة جراحاتها، فيهبونها أرواحهم ويفجّرون أجسادهم ليُسمعوا صوتها لمن لم يسمع. أليست “السفير” “صوت الذين لا صوت لهم”؟ هكذا مثلاً كان حرف الجر الذي أنزل الاحتلال من عجرفته الى قعر السقوط، اسمه أحمد قصير، وكان “نسمة الذي لم يتخذ مهنة إلا الحب” يوشوش بحروف طلال سلمان في أذن العروس سناء محيدلي، وتصبح الحروف بناً محروقاً في فنجان قهوة بلال فحص، فيسقط جنود الاحتلال وتحترق دباباتهم، ليتمكّن طلال سلمان من لملمة حروفه مجدداً وصياغة خبر جديد، وعنوان جديد، وقد تيقّن من صحة المقولة. وتدور رحى الحرب، وتدور حروف الحب، وطلال سلمان روح هائمة حتى يؤرّخ للمقاومة انتصاراً تلو انتصار، وتحريراً تلو تحرير من لبنان إلى فلسطين.
– تخيّل طلال سلمان صورة لبيروت، وجعلها عشيقته، وقد لا يصدق البعض أن حبّه لبيروت كان غامضاً غموض المدينة وسحرها، وكان يعتبر نفسه أحد الذين أغوتهم المدينة بسحرها فتلبّسته جنّيّتها. وكثيرون عندما يقرأونه كيف يكتب عن بيروت، يتخيّلون أنه يتحدث عن غير بيروت التي يعرفونها. فقد كانت بيروت عنده صفة لا مكان ولا زمان لها، وهي حالة شعريّة ومشهد مسرحيّ وأغنية لفيروز، وكل ذلك يختلط بأصوات باعة الصحف ذات فجر في ساحة البرج، وصراخ سائقي سيارات الأجرة، وضجيج الجموع المتدافعة في أسواقها القديمة. فليس غريبا أنه كان يكتب لبيروت وهو يدمج بها نزار قباني وأدونيس، وقد ابتكر لها اسماً، فهي الأميرة، ورأى للأميرة مطبخاً ومعجناً، فيه ينتج خبز الأميرة وتصاغ السياسة، وتكتب هتافات المظاهرات، وتشحذ أسلحة المقاومين. فهنا الضاحية، ولها ابتكر أيضاً اسماً، فهي النوارة. والنوارة رمز أخلاقيات الثوار، ووجع الفقراء، وأنين المقهورين والضعفاء، وبقدر ما أحبّ الأميرة والنوارة، كان يخاف عليهما من فقدان الروح والتلهي بقشرة المظاهر، مظاهر الإمارة لبيروت، ومظاهر النور المبهر للضاحية.
– عاش طلال سلمان عمره وهو يحمل في قلبه صورة لجمال عبد الناصر، للسمرة التي تباهى بانتمائه إليها، واللغة التي عشق تدفقها كسيل هادر في خطابات عبد الناصر، خطاب تأميم القنال، و”ارفع رأسك يا أخي” لقد ولّى عهد الاستعمار، وكوَّن لنفسه مزيجاً فريداً من جمال عبد الناصر أسماه الزمن الجميل، أدمج فيه أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ولهما “خلّي السلاح صاحي”، و”أنا أم البطل” لشريفة فاضل. وكانت بورسعيد هي عاصمة ثورة جمال عبد الناصر عنده، حيث المقاومة الشعبية التي انتصرت. وبقدر ما أحبّ عبد الناصر حزن في أيام كامب ديفيد السوداء، والتفريط بإنجاز العبور، وكانت رفقته لرفاق عبد الناصر وفي الطليعة لمحمد حسنين هيكل، الأستاذ الفريد في عالم الثقافة والصحافة، ترجمة لهذه الثنائية في الحب والحزن، حتى أنه عندما أراد أن يظهر حباً للرئيس الراحل حافظ الأسد وسماحة السيد حسن نصرالله، سعى ليكون لهيكل نصيب من مجلس كل منهما.
– فلسطين التي ربطت طلال سلمان بها قصيدة حب عذريّ، كانت ترجمتها الأمثل رسوم ناجي العلي على الصفحة الأخيرة من “السفير” أكثر من أي شيء آخر. فليس هناك أنقى وأشرف وأوضح وأصدق من ترجمة لفلسطين سوى ناجي العلي، رغم المكانة الخاصة لقصائد محمود درويش، وسميح القاسم وتوفيق زياد في نصوص طلال سلمان، فقد بقي الكاتب الذي بدأ حياته المهنية بنصوص ساخرة بين مجلة الحرية ودار الصياد، يعشق الكاريكاتير، وربما وجد في ناجي العلي أقصر الطرق لطلب يد فلسطين لتبادله الحب. وقد قيل مراراً أمام طلال سلمان، إن السفير كانت تُقرأ مراراً بدءاً من الصفحة الأخيرة، فيفرح لأن فلسطين لا تزال تملك هذا السحر، ولأن ناجي العلي كان التعويذة التي تستحضر هذا السحر.
– كتب طلال سلمان: “قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب: هتفت له: لقد انتظرتك دهراً، وها أنت تمرّ بي كعصفور أضاع سربه فيتعجل الانصراف للحاق برفاقه!”. وها هو طلال سلمان يتعجّل الانصراف للحاق برفاقه، لكنه سوف يبقى الأستاذ طلال، دون حاجة لأي إضافة.

شاهد أيضاً

إردوغان والأسد إن التقيا “قريباً”.. في بغداد أم أبو ظبي؟

  توفيق شومان تبدو المساعي العربية والإيرانية والروسية في سباق غير معهود لإنتاج تسوية سورية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *