كيف يرى فيشت الفلسفة الماسونية؟

  محمود عبد الوهاب

عندما بدأت البحث حول الفيلسوف الألماني “فيشت” لتقديمه كنموذج لرواد الفلسفة المثالية الألمانية، لم أكن أتوقع أن يكون عضواً في الحركة الماسونية، ليتأكد لي بذلك ما ذهبت إليه في مقالات سابقة، من أن الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين الذين قادوا عصر التنوير في أوروبا على مدى القرنين 17م و18م؛ كانوا في الواقع ينشرون أفكار ومبادئ الحركة الماسونية، ويبشّرون بالعالم الجديد الذي سيقوم على أنقاض العالم القديم الذي ساد في أوروبا لقرون طويلة. وقد تسنى لهم ذلك بعد أن تم تفكيك نظامه السياسي والديني والأخلاقي والاجتماعي، وبناء نظام جديد على أسس ومبادئ جديدة في جميع الدول الأوروبية أواخر القرن 18م والنصف الأول من القرن 19م، وكان الفيلسوف فيشت مثالاً واحداً لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين الذين التحقوا بعضوية الحركة الماسونية أو ظلّوا يدورون في فلكها.

يدعو فيشت إلى تشكيل دولة واحدة عادلة تماماً للبشرية جمعاء، تكون علاقات أفرادها ودولها علاقة منظمة تماماً وفقاً لقوانين العقل الأبدية.

فيشت والفلسفة الماسونية

يعتبر فيشت “يوهان غوتليب فيشت” (1762-1814م) أحد روّاد الفلسفة المثالية الألمانية أواخر القرن 18م وأوائل القرن 19م. تأثر كثيراً بأعمال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي أعجب بهمة فيشت وأفكاره وساعده على نشر أول مخطوطة له حول علاقة الفلسفة النقدية بالوحي الإلهي، متبنياً فيها فكرة كانط القائلة بأن كل المعتقدات الدينية يجب أن تخضع للتدقيق النقدي. وقد فتحت هذه المخطوطة أمامه باب الشهرة بين الفلاسفة الألمان. وسرعان ما طوّر نظامه الخاص للفلسفة المثالية فيما يعرف بنظرية علم المعرفة، في كتابه “حول مفهوم علم المعرفة أو ما يسمى الفلسفة” الذي أتبعه بعدد من المؤلفات والمحاضرات، من بينها: “أسس نظرية علم المعرفة”، و”أسس القانون الطبيعي”، و”محاولة نقد الوحي”، و”الأخلاق في ضوء نظرية علم المعرفة”، و”مصير الإنسان”، و”المساهمة في تصحيح الأحكام العامة بشأن الثورة الفرنسية”.

التحق فيشت بالحركة الماسونية في 1793م، وكتب محاضرتين تحت عنوان “فلسفة الماسونية” أو “رسائل إلى كونستانت”، نشرتا عام 1802 و1803م في مجلدين لدورية متخصصة في “إنتاج المفكرين المتحدين حول تاريخ وفلسفة الماسونية”. والمحاضرتان موجهتان أساساً لأعضاء الحركة الماسونية، وقد نشرتا لاحقاً في كتاب حمل الاسمين، ونشر موقع “منتدى البحوث الماسونية” نسخة منها بالنصّ الألماني مع الترجمة الإنجليزية. ونتوقف عندها لنتعرف على فلسفة فيشت العامة، ونظرته للحركة الماسونية، وللدين والأخلاق.

يعبّر فيشت بوضوح في كتابه عن معرفته العميقة بالحركة الماسونية ونشأتها وانتشارها في عصره، ويذكر أنها ظهرت في لندن في العقود الأولى من القرن 18م ضمن إشعار عام، ويبدو أنها نشأت في وقت سابق، ولكن لا يعرف أحد كيف تمّ ذلك، ولا من أين أتت، ولا ما هي، وما الذي تسعى إليه، ولكنها على الرغم من ذلك؛ انتشرت بسرعة لا يمكن تصورها، وانتقلت عن طريق فرنسا وألمانيا إلى جميع دول أوروبا المسيحية، وحتى إلى أميركا. وقد دخلها رجال من جميع الرتب: حكام وأمراء ونبلاء ومتعلمون وفنانون ورجال أعمال، وأطلقت على نفسها اسم “جمعية الماسونيين الأحرار”. ويشير فيشت إلى أن الحركة الماسونية سرعان ما لفتت انتباه الحكومات إليها، فتعرضت حينها للاضطهاد في معظم الممالك الأوروبية، مثل فرنسا وهولندا وبولندا وإسبانيا والبرتغال والنمسا وبافاريا ونابولي، لكنها حافظت على نفسها في ظل كل هذه العواصف، وانتشرت في ممالك جديدة، وانتقلت من العواصم ليتم زرعها في مدن المقاطعات، حيث كان المرء بالكاد يسمع عنها في السابق. ويضيف فشت: “بشكل غير متوقع، وجدت الحركة في مكان ما الحماية والدعم، بينما في مكان آخر كانت تواجه خطر الانقراض. في مكان واحد تم شجبها باعتبارها عدوة العرش ومؤسِّسة الثورات، وفي مكان آخر فازت بثقة أفضل الحكّام”.

طرح فيشت العديد من التساؤلات النقدية ليقوم بالإجابة عليها، مقدماً تصوراته لما قد يساعد الحركة الماسونية على القيام بدورها وتحقيق أهدافها، فطالب بضرورة أن تكون أهدافها محددة، وأن تكون مختلفة عن أهداف المؤسسات العامة، لأن ذلك سيكون زائداً عن الحاجة، وسيتسبب في قلق هذه المؤسسات من منافسة الماسونية لها، مما سيؤدي إلى نشر الفوضى على نطاق واسع، وستقف هذه المؤسسات في وجه الحركة الماسونية، حيث سيكون من المصلحة العليا لكل المجتمع البشري وكل فرع منه: للدولة والكنيسة والجمهور المتعلم والنشط؛ تدمير الحركة بمجرد أن تصبح معروفة له.

ويتساءل فيشت حول مدى إمكانية تأثير الحركة على العالم، وعلى المجتمع البشري الأكبر، ويرى أن ذلك ممكن بتحقيق الأهداف التالية:

تشكيل مجتمع واحد، أخلاقي وتقي. تشكيل دولة واحدة عادلة تماماً للبشرية جمعاء، تكون علاقات أفرادها ودولها علاقة منظمة تماماً وفقاً لقوانين العقل الأبدية. يجب أن يسود الكائن العقلاني تماماً على الطبيعة غير العقلانية، ويجب أن تخضع الطبيعة للإرادة العقلانية، فالعلوم الطبيعية وسيلة للإرادة العقلية.

يعتقد فيشت أنه لا يمكن استخدام الدين للحفاظ على النظام المدني، ولا للتهدئة والمواساة، لأنه لا فائدة منه على الإطلاق.

بين الدين والفضيلة

يردد فيشت النظرة الماسونية للدين، وعدم التدخل في أديان الشعوب عند نشر المحافل الماسونية فيها، فهو يرى أن هناك دينا ماسونيا خاصا، أي نظرة ماسونية خاصة للدين، ترى الدين على أنه دين أخلاقي، وليس كنسيّاً. ويوضح فيشت أن الحالة الدينية في المجتمع الأكبر قد اتخذت قدراً كبيراً من بالعرضية والخصوصية في آن واحد، فالأفكار الدينية للشعوب، تظهر في بعضها دون البعض الآخر، وتلتصق بعاداتها وأعرافها، وبآرائها في الحياة، وبعلومها وفنونها؛ وفي هذه النواحي، وهذا يجعل كل منها على حق مثل الآخر. والإله تجلى لهم جميعاً بقوّة إلى حد كبير؛ لليهود في خلاصهم من عبودية مصر، وللرومان في تأسيس مبنى الكابيتول الأبدي، وللعرب عندما وحّد رجل -يقصد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام- من وسط القبائل البدوية المتناثرة وكوّن إمبراطورية ضخمة. ويرى أن الأزمات الدينية تحدث عندما يتشاجرون مع بعضهم البعض، وينكر أحدهم قصة الآخر، ويحاول فرض قصته عليه باعتبارها القصة الحقيقية الوحيدة. ومن هنا يعتقد فيشت أنه يجب على الشخص المتعلم أن يضع جانباً هذا الشكل العرضي للدين بالكامل، لأنه ليس إنسانياً بحتاً. فالرجل الذي ليس لديه ما يفعله لن يفعل شيئا أكثر من قيادة الآخرين إلى التدين، وهذا بلا شك هدفه والغرض الوحيد من حياته، فبدون الإطار الذهني البشري النقي، سوف يميل بسهولة إلى الرغبة في جعل كل شيء من حوله مثله، وسوف يميل بسهولة إلى حث أولئك الموكلين إليه للبحث عن الأبدية خارج الحرية. سيصدقه البعض ويطيعونه، وبذلك يكون لديهم تديّن أحادي الجانب.

أما بالنسبة للماسوني؛ فيرى فيشت أنه يسعى فقط إلى الهدف الأرضي الذي تم إعداده له، بثقة راسخة بأن السماوي كامن وراءه، وأنه سيأتي إليه دون أن يفعل المزيد، إذا حقق هدفه الأرضي. فالتدين بالنسبة له ليس شيئا على الإطلاق معزولاً بنفسه، بحيث يمكن للمرء أن يكون قوياً جداً في التقوى، ولكنه بخلاف ذلك ضعيف جداً، ومتخلف جداً، وشخص سيء. فالماسوني ليس متديناً، فالدين بالنسبة له هو الأثير الذي تظهر فيه جميع الأشياء له، يضع لها القوة الكاملة في كل مهمة تأتي أمامه هنا في هذا العالم، وقد يعتقد المراقب أنه لم يكن لديه ما يفعله سوى تحقيق هذا الغرض، وأن هذا يحقق وجوده كله وكل دوافعه، عقله دائما في الأبدية، قواه معك دائماً، لكن لا يخطر بباله فقط أن يعيش في السماء بطريقة متكبرة بعقله وأن يترك قواه في راحة على الأرض. لأنه لا يوجد عقل بدون قوة فعّالة تعطي شيئا لابتكاره.

ويعتقد فيشت أنه “لا يمكن استخدام الدين للحفاظ على النظام المدني، ولا للتهدئة والمواساة، لأنه لا فائدة منه على الإطلاق”، وأن “أي شخص يفكر في أعضاء هذه المهنة (الماسونية) بهذه الطريقة، سوف يلجأ إلى الوسائل المعتادة لجلب الرجال إلى الأخلاق من خلال الخوف من العقاب الخارق للطبيعة في الآخرة والأمل في المكافأة الأبدية”. ويوضح فيشت أن الأمر ليس كذلك مع الماسوني، فهو بعيد كل البعد عن أن يتمنى أن يتحول الدين إلى منصب شرطي غير فعال، وهو أقدس شيء لدى البشرية. ولذا فإنه يرى أن الشخص الذي لا يزال بحاجة إلى الانضباط بالثواب والعقاب ليظل رجلاً أميناً، ليس ماسوناً ولا ينتمي إلى المجتمع الماسوني على الإطلاق، ولا ينبغي الاعتماد على مثله في المؤسسات الماسونية. فالماسوني يجب أن يفعل الخير ويتجنب الرذيلة بدافع الشعور بالواجب، أو على الأقل الشرف، على الرغم من أنه، كإنسان وليس كماسوني، لديه فكرة عن الإله والدين. فالماسوني على حد قول فيشت لا يعتبر الدين حافزاً للفضيلة، لأن الدين لا يمكن أن يكون كذلك طالما أن كل ما يقوم على دافع خارجي يتوقف عن كونه فضيلة.

يرى فيشت أن الهدف العام للبشرية هو تشكيل هيئة أخلاقية بحتة واحدة، تعبّر عن حالة قانونية تماماً، تخضع فيها الطبيعة غير العقلانية لما تمليه إرادة المرء.

الحرية الأخلاقية والقانون

الأخلاق عند فيشت هي القانون، وهو يعتبر أن الحرية الأخلاقية، أي حرية التشريع وسن القوانين، هي الأقدس، وأن هذا المفهوم الحازم والمحدد يجب أن يكون شريعة الماسونية، مع تدريب العقل والغرائز على القابلية للأخلاق، والتوحيد الخارجي للقانون.

ويعتقد فيشت أن الهدف العام للبشرية هو تشكيل هيئة أخلاقية بحتة واحدة، تعبّر عن حالة قانونية تماماً، تخضع فيها الطبيعة غير العقلانية لما تمليه إرادة المرء. ويؤكد على أنه لا يوجد تعليم ماسوني وتدريب في الأخلاق، بل الأكثر من ذلك، لا يوجد مثل هذا التعليم بشكل عام في أي مكان، وهذا من الأشياء السيئة في عصره، والتي تُظهر أن المرء لا يعرف بعد الأخلاق الحقيقية. فالأخلاق هي أن يقوم المرء بواجبه المحدد جيداً بحرية داخلية مطلقة، دون أي حافز خارجي، لمجرد أنه واجبه. ويشدّد على أنه لا يمكن أن يكون هناك أي أخلاق ماسونية خاصة، رغم وجود واجبات خاصة تفرضها الماسونية على أعضائها، والتي لم يكونوا ليتحملوها دون أن يكونوا أعضاء في ذلك المجتمع.

ولذلك يدع فيشت أعضاء الحركة الماسونية إلى تعزيز القانون والعدالة بالاتحاد بين الشعور بالمواطنة العالمية والشعور بمواطنة الدولة، حيث يطيع الماسوني قوانين أرضه وأنظمة سلطاتها الحاكمة بأكثر دقة، باعتبارها جزءاً من البشرية جمعاء.

وينهي فيشت محاضرته الثانية في هذا الكتاب متسائلا عن كيفية قيام أعضاء الحركة في زمانه، بالانشغال فقط بالتعاليم الماسونية، وكيف يمكن لمثل هذه الحركة أن تنتشر وتزداد؟ ويقترح لذلك المحافظة الدائمة على وجود مؤسسات تدريب سرية منفصلة ومعزولة بالضرورة عن المؤسسات العامة.

خاتمة

لم تخرج الأفكار التي أوردها فيشت في مؤلفاته ومحاضراته عما ورد في كتابه “الفلسفة الماسونية”، والتي جسّدت رؤية الحركة الماسونية لتغيير النظام العالمي القديم وتأسيس النظام البديل والأسس التي ستقوم عليها الدول الحديثة في أوروبا والعالم، في شكل أسئلة وإجابات موجّهة مباشرة لأعضاء الحركة الماسونية لتوضيح المفاهيم الأساسية للحركة وترسيخ إيمان أعضائها بأهمية الدور المنوط بها، وضرورة ضبط فكرهم وأدائهم بمفاهيمها وتصوراتها وأنظمتها، لتسهيل النجاح في هذه المهمة، وهو ما تحقق لها بالفعل على مدى القرن ١٩م، وكان من نتاج ذلك إزاحة الدين والأخلاق من حياة المجتمع والأفراد.

شاهد أيضاً

🛑 *الكلمات “المحشومة”..*

احمد ابو خليل هذا الكلام المدروس بعناية الذي يقدمه الناطق باسم كتائب القسام بشكل دوري، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *