القريدس معكوف كما هو معروف


د. محمّد مسلم جمعة

“إبداعات الشاعر شوقي مسلماني هي وليدة خصاله، وزاوج بين الأصالة والحداثة، وأصالته تعود الى أنّه إبن بلدة كونين الوادعة في جبل عامل ـ جنوب لبنان ـ ضمن الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلّة ـ وهذا ما أظهره واضحاً في مؤلَّفه “كونين ـ لطائف وطرائف” حيث أبناء البلدة الفلاّحون جلساتهم وسهراتهم تزيّنها الفكاهة، وحياتهم كثيراً غنيّة بالمقالب البيضاء المشبّعة بالرقّة وطيب الخاطر. وفي ما يلي أوراق من الكتاب عنهم وهم في العاصمة بيروت:

 

(إعتراف)

كان المرحوم “خليل فوعاني” يعمل في فترة شبابه “عتّالاً” ـ “حمّالاً” في سوق السمك ببيروت “مهاجراً” من البلدة كونين، وكانت زوجته لا تزال في البلدة، وقرّر، ومعه المرحوم محمّد جنيدي، في مرّة، أن يذهبا إلى “السوق العمومي” حيث النساء “متل اللِّعَبْ”. وحدّدا ساعة الصفر بعد المغرب، أي عندما يحلّ أوّل الليل، فلا يراهما أحد من “المعارِف”. وكان خليل يلبس ثياباً بالية و”سبّاطاً” ـ حذاء ـ “بهدلة” ـ مؤسِفاً ولا “بنود” ـ رباط ـ له. ودخلا السوق، وبدأ الشجار بينهما، وخليل يريد أن يقصدا صاحبة “النصف ليرة”، أي “الأقلّ” سنّاً، ومحمّد جنيدي يريد أن يقصدا صاحبة “الربع ليرة”، أي “الأكثر” سنّاً، وكلّ واحد منهما “مْتنتر بضاعته” ـ ناشب قضيبه ـ أمامه. وبينما الشجار مستمرّ لم ينتبها أن وراءهما أحد الشرطة يحمل كرباجاً ويسمع كلّ شىء.. وقال: “بدلْ ما تدفعوا كلْ واحد نصف ليره أو ربع ليره للشراميط روحوا اشتروا ثياب وسبابيط”! ورفع عليهما الكرباج، وتمكّنا من الهرب أخيراً. وكانت عادة في زمان أجدادنا في البلدة عندما يتحمّمون، حيث تأتي الزوجة وتفرك ظهر زوجها وسط الإسطبل. ورأت زوجة خليل، بعدما رجع إلى الضيعة ليقضي فيها يوماً أو يومين قبل النزول مجدّداً إلى بيروت، أثر الكرباج، فسألته عنه، فقال إنه من أثر “العتالة” ـ العمل حمّالاً ـ والحبل!. ولكن بعد سنوات كثيرة اعترف بالواقعة وهو يضحك.

 

(نسيب النوَر)

في سوق السمك ـ بيروت ـ أوائل سبعينات القرن العشرين ـ اجتمع بعض بائعي السمك من أهالي كونين و”صاروا ينعتوا ويبهدلوا” بالذي زوجته “قطشهْ” أي لها “فرْدْ أذن” ـ أذن واحدة، فصار كريم ديراني “ينعت ويبهدل” معهم، فقال له أحدهم: “يا أهبل، ما الشباب قاصدينك، مش إنت المتزوّج النوريّه”؟!. قال: “إمبلا” ـ نعم!. فقال: “زوجتكْ النوريّهْ إلْها دَيْنِهْ وِحْدِهْ”!، فقال كريم: “بَسّ روح عَ البيتْ بفْحصْها”!. وفعلاً “طلعتْ” ـ وجدها ـ بأذن واحدة!. وكان كريم قبل أن يذهب إلى البيت يمرّ على سوق الدّجاج، و”وَين في دجاجه فطسانه ياخذها يذبحها ويحط شويّة “كتْشبْ” ع رقبتها ويحملها” إلى عمّه النوري!. ويوماً، وهو يبحث عن الدجاج الفطسان، وقع نظره على دجاجة “فطسانه” كبيرة الحجم جدّاً، فأخذها إلى عمّه، فما كان من الأخير، عندما وجدها بهذا الحجم، إلاّ أن عزم كبار النور من ربعه، وعندما أكلوا تسمّموا جميعاً، لأنّ الدجاجة كانت قد ماتت مسمومة بقمح مسموم للجراذين!.

 

(آب اللهّاب)

كان عبد المعين عناني وأخوه محمّد حسن “أبو حسن” في بيروت، ينزلان في محلّة زقاق البلاط ـ حيّ قمّوريّة ـ عند علي مسلماني “أبو حسين”. وفي يوم من أيّام آب (أغسطس) اللهّاب (لاشتداد الحرّ في هذا الشهر من السنة) قرّر عبد المعين أن “يفسّح” أخاه، ويأخذه نزهة، وعرض عليه مصيف عاليه أو صوفر في الجبل ـ جبل لبنان حيث الجوّ المنعش، وكان لعبد المعين “موتسيكل ـ موتورسيكل” ـ درّاجة ناريّة ضخمة أشبه بـ “موتورسيكلات” العسكر زمانَ هتلر. وهما في منطقة الجبل حيث غابة حرجيّة صادفا كوعاً خطراً لإنعطافه الحادّ، وقال عبد المعين لأخيه الذي كان خلفه إنّ هذه الناحية من المنطقة يكثر فيها اللّصوص والمعتدون على النّاس. وقبل أن يكمل حديثه فاجأه “مطبّ”، ونشبت الدرّاجة الناريّة عالياً، وطار أبو حسن وحطّ على الطريق واقفاً، بمعجزة ما بعدها، كما قال، معجزة، وصفّر لأخيه عبد المعين (دعاه بالصفير) لكي يقف له، من دون أدنى فائدة. وظنّه عبد المعين لا يزال خلفه. قال له: “شفتْ يا خيّي، هوذي اللصوص شافونا وعم يصفّروا”!. وبعد مسافة، وعبد المعين يتحدّث ولا حسيس أو أنيس ممّن يُفترض أنّه خلفه، التفت وإذ به وحده. ورأى رجلاً فتوقّف وسأله: “شفتلّي خيّي”؟!. قال له الرجل وقد فهم أن يعود أدراجه بسرعة. وكان أبو حسن في إنتظاره حقّاً.

 

(سمك عرموط)

نزل اسماعيل سلامة من الضيعة ـ كونين إلى بيروت وقصد سوق السمك و”دوووز” أي مباشرة “لعند أبو فوزي” وقال له: “بيعني شويّة سمك حتى بيعهن وإستفيد”، فأعطاه “غُبُّسْ” أو “غبّص” و”جربيدي” ولم يعطه من “العرموط”، وبسّط بالسمك في مكان غير بعيد، وصار أبو فوزي ينادي أن العرموط “بليرة وربع”، وعندما يأتي زبون يصرخ اسماعيل سلامة أنّ العرموط “بليرة” فيهرع إليه الزبون علماً أنّ اسماعيل ليس عنده من سمك العرموط، ولكنّ المشكلة أنّ الزبون لا يرجع إلى أبي فوزي بسبب اسماعيل سلامة الذي يقول للزبون أن “العرموط عند أبي فوزي بايت وطالعه ريحته وإذا أكلت منّه بتتسمّم”!، وقد تكرّرت هذه المسألة حتى جاء أبو فوزي إلى اسماعيل غاضباً وقال: “ليش عم تعمل معنا هيك؟ قلت بدَّك سمك اعطيناك بالناقص تتبيع وتربح.. شو بدّك بعد”؟، فردّ اسماعيل سلامة: “أنا عملت هيك لأنّك ما كنتش تعطيني عرموط”!.

 

(عيون المشمش)

مرّة كان محمود طعمة وكامل مسلماني وعلي سعيد سلامة ورابعهم الحاج أسعد عناني عند بسطة سمك الشريكين محمود وكامل في سوق السمك ببيروت، وجاءت إمرأة وانحنت فيما تنظر في السمك المعروض، ولاحظ محمود أنّ الحاج أسعد ينظر من تحت الطاولة.. وبدأ يغنّي “إرتجالي” فيما كامل ومحمّد سعيد سلامة يردّدان خلفه: “يا امّ عيون المسودّة والمشمش فجّ \ “وقيل”: ما زال اللّوزه خضره والمشمش فجّ) \ ديري وجّك لصوبي وطيزك للحجّ”. ولم يعرف الحاج أسعد رحمة الله عليه يومها “مْنينْ بدُّه يهربْ”؟!.

 

(القريدس صنّارة)

جاء زبون إلى وجيه فصاعي ـ ووجيه صاحب خَيال ـ وطلب منه 2 كيلغ سمك طعماً لصيد السمك. باعه وجيه 2 كلغ “دبّوس” ـ سمك لا يُعتدّ به، وملاحظاً إنّ الزبون قِمّة في السذاجة سأله إذا يريد أن يشتري صنانير؟. وباعه كلغ قريدس (والقريدس معكوف كما هو معروف) كإنّه صنانير، وعن كيفيّة الصيد قال: “لا أبسطْ من هيك، بْتربط الدبّوس بْذيل القريدس وْقولْ مبروكْ.. علقت السمكه”!.

 

(وداعاً)

حصل كامل مسلماني “أبو محمّد” على “فيزا” ـ تأشيرة سفر له ولأسرته الكبيرة سنة 1977 بمعونة من صهره عبد علي مهنّا “أبو حسن” إلى أستراليا، فاستدان ستة آلاف ليرة لإستكمال ثمن بطاقات السفر، ثمّ وهو في آخر يوم من عمله في سوق السمك ببيروت تحلّق بعض أبناء كونين من آل رسلان وصالح ومصطفى وغيرهم من العاملين في السوق وبدأوا بالعزف على تنكة كإنّها طبلة والتصفيق، وكان كامل مسلماني ذاته يعزف ببراعة على آلة المجوز. وغنّى أبو أنيس عبد المنعم طعمة: “يا محروق قبر جدّك \ وين رايح وين؟ \ صهرك ركّب عَ قلبك \ 6 الآف دين”. وقال كرّومة طعمة: “يا محروق أبو جدّك \ ما كان يهصّ (أي كان يتكلّم دائماً ولا يصمت) \ بيْبيع 12 علبه (وزن الواحدة لا يقل عن 20 كلغ سمك) \ ما بيربح فصّ”. وقال محمود عبد الله طعمة: “يا محروق أبو جدّك \ بتبحّ القلب \ بتْروح الله لا يردّك \ بالناقص كلب”.

ـ وذاته عمّي “أبو محمّد” رحمه الله قصّ علي ذلك فرِحاً كطفل.

 

(شفافيّة)

المرحوم أمين طعمة، عندما كان صغيراً، قصد عمّه المرحوم “أبو فوزي” وسأله أن يعطيه “فرخين” سمك فيقليهما ويتغدّى، فاستمهله عمُّه معتذراً بوجود الزبائن وقال له أن يذهب وأن يرجع بعد هذا الأوان، فلم يقتنع وقرّر أن يختلس الفرخين، ومدّ يده خلسةً إلى فرش السمك، ورآه عمُّه ولم يشأ أن يشتلق الزبائن، قال كإنّما يكلّم السمكات أمامه، وهو متأكّد أن ابن أخيه سيعلم إنّه المقصود وقد انكشف: “إمْشِ وِشْتْ”!. ويُقال “وِشْتْ” للكلب إذا نهروه بعيداً!.

 

(لؤّز أبو حديد)

طلب زبون، وهو مدير فندق في مصيف عاليه الشهير ـ جبل لبنان ـ قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، من وجيه فصاعي، سمكة لؤّز زنة 20 كلغ، لا تزيد ولا تنقص. وكان عند وجيه لؤّز مفرَّز، أي مبرَّد أو مثلّج، ولكن دون 20 كلغ بكثير، إلاّ واحدة، فإنّ وزنها بلغ 18 كلغ. اختلس من بسطة سمك مجاورة عيار 2 كلغ ودفعه في فم السمكة التي اشتراها الزبون الغافل. وقيل إنّ طبّاخ الفندق وبينما كان يشتغل على السمكة عثر على “العيار” وقال لمدير الفندق إنّ اللؤّز يأكل حديداً من البواخر الغارقة في البحار البعيدة!.

 

(الشيخ وأبو سامي)

حدّثنا أحمد عبدالله فوعاني “أبو عبدالله” قائلا إنّه اتّفق مع سليمان جنيدي “أبو سامي” اعتباراً إنّه لديه سيّارة أن يذهبا إلى منطقة كسروان لبيع السمك، وعندما صارا عند مشارف بلدة العاقورة قال أبو سامي إنّه منذ ثلاث سنوات كان يبيع السمك في هذه البلدة و”أَكلْها قتْله” ـ ضُرِب ـ وسأله أبو عبدالله: “ليش يا بو سامي”؟، قال إنّه عندما دخل أوّلَ البلدة نادى: “سمك”، فناداه مِن أوّل صوت شخص يشبه محمّد نزيه بالضخامة قائلاً: “اعطيني سمك”، وشاء أبو سامي أن ينطلق نحوه عبر الساحة ولكنّ زبوناً استوقفه وتبعه كثيرون واشتروا السمك كلّه ولم تبق معه سمكة واحدة، وبينما هو يرفع الميزان وإذ الرجل الضخم يتّجه نحوه وهو يفيض غضباً وقال: “قلتلّك تعا لعندي قلت جايي، شو عم تضحك عليي”؟. وتعاركا، و”أكلها أبو سامي قتله” خصوصاً وإنّهم تكاثروا عليه. وأضاف أبو عبدالله إنّه وأبو سامي وصلا الى ساحة العاقورة و”صارت العالم تشتري” وإذ شيخ ضخم يسألهما: “قدّيش الكيلو”؟، قال له أبو سامي بمبادرة طيّبة: “بْليرتين”، فقال الشيخ: “وَيْنْ مكان بليره”!، قال أبو سامي صادقاً ولكن بعفويّة من يحاكي إنساناً من أصحابه: “هالحكي مشْ صحيح”!. وقنبلة وانفجرت. هجم الشيخ عليه يريد أن يأكله فكيف ينعته بالكذب؟. وتدخّل أبو عبدالله بسرعة قائلاً للشيخ: “أهلاً يا شيخنا أنا المعلّم في عِنّا عدّة أنواع من السمك في بْليره وْفي بليرتين وْفي بتلات ليرات، شو بدّكْ أنا بخاطرَك”. وبهذه الطريقة اللّبقة زال غضب الشيخ ونجا أبو سامي من “القتله” هذه المرّة!.

 

(أبو شوارب)

المرحوم حسين علي طعمة “أبو أسد” قصد بلدة “المعلّقة” وهي من بلدات منطقة زحلة بالبوسطة حاملاً السمك في السلال المدوّرة الكبيرة، وفي كلّ سلّة قرابة 15 كلغ، وبدأت صيحاته: “طازه، طازه يا سمكْ”، فاستوقفتْه سيّدة كلّها هيبة وسألتْه عن أنواع السمك التي بحوزته، فوضع السلال على الأرض وقال: “اختاري اللي يناسبك”، فوقع نظرها على نوع وسألته: “شو إسم هيدا السمك اللي إلو شوارب”؟!، قال: “إسمه قريدس، بس أغلى من الباقيين”، قالت: “ليش”؟، قال: “بينشّط، وبس ياكل الرجّال منّه بيصير قوي”، فأعجبها الحديث وقالت: “اعْطيني 2 كيلو”، فأعطاها، ودلّها على طريقة قليه بزيت الزيتون، ومع الثوم والحامض، ففعلت، وقدّمت الوجبة لزوجها بعدما وضعت الحمرة والبودرة وهي مسرورة، ولكن حصل ما لم يكن بالحسبان، فعندما انتهى الزوج من تناول القريدس أتاه النعاس ونام “لغاية الصبح” ـ إلى الصباح ـ ولكنّ الزوجة لم يأتها النوم. وبعد أسبوع عاد أبو أسد إلى المكان ذاته، وعلمت السيّدة ذاتها بمجيئه فأحضرتْ له عصا ونزلت إليه وقالت: “غشّيتني بالقريدس”، فصار يحلف إنّ القريدس طازة، فقالت: “وعدتني بْشي وطلع معي شي تاني، بس أكل زوجي نِعِس وْنام”!، فقال: “أنا يا ست عْملت اللي عليّي، شو بعملّك اذا زوجك قليل مروِّهْ”؟!.

 

(أمّ قاسم)

المرحومة الحاجّة أمّ قاسم بلّوط مهنّا لم تغادر كونين يوماً، فقالت لها اختها الحاجّة ليلى وكانت تعيش في بيروت ـ ستينات القرن الفائت ـ مع زوجها المرحوم بديع مهنّا: “يا إختي إنتِ عايشه بالضيعه مْن الحقله ع البيت ومْنِ البيت ع الحقله، بدّي آخذك على بيروت تْشوفي الدنيا”. وأخذتها، وإلى ساحة البرج صحبتها، وكان أحد المحلاّت يعرض قطعَة قماش على تمثال (مونيكان) نسائي، وأستغربتْ أمّ قاسم من نعومة القطعة، وقالت للمونيكان: “عجَبتْني يا روحي هـ القماشه بقدّيش الدراع”؟. قالت لها ليلى: “يا إختي إنتِ عم تحكي مع تمثال”!. قالت: “إنتِ عم تضحكي عليّي، شوفي إيديها وإجريها وعينيها وكلّ شِي”!. قالت ليلى: “يا إختي خلّينا نمشىي”. ووصلتا الى تمثال رياض الصلح الذي نظرتْ إليه أم قاسم وسألت: “ليش هالزلمي حاطط قعقور وواقف عليه”؟.

 

شاهد أيضاً

بالتنسيق مع البلدية .. تكريم معمري بلدة كفرا لصمودهم رغم تهديدات العدوان

تكريماً لصمودهم في قريتهم كفرا وثباتهم دون التهجير القسري، كرّم رئيس البلدية الفخري مهدي حمدان، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *