الصين من التمرد إلى التصدى للنفوذ الأمريكى

د. محمد السعيد إدريس

قطعاً ليست هى الصدفة وحدها التى أدت إلى حدوث توافق فى مضامين أهم وثيقتين أمنيتين أمريكية وصينية صدرتا بشكل متزامن، وثيقة “استراتيجية الأمن القومى الأمريكى” الصادرة عن البيت الأبيض الأمريكى فى أكتوبر الماضى ووثيقة “التقرير النهائى” الصادر عن أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى “فى ذات الوقت تقريباً” حيث اهتمت الوثيقتان ، بشكل مثير، بضرورة إنشاء ودعم المنظمات المهتمة بالأمن الإقليمى. الجديد فى الأمر ليس اهتمام الأمريكيين بتكثيف وتوسيع وجودهم العسكرى القومى فى التنظيمات الإقليمية ونظم الأمن الإقليمية المختلفة فى أنحاء العالم، ومن بينها بالطبع إقليم آسيا المحيط الهادى، لكن الجديد هو ذلك الظهور الصينى القوى فى الشئون الأمنية – العسكرية بالإقليم على نحو أضحى يثير مخاوف الأمريكيين وحلفاءهم فى هذا الإقليم، لأن الأميركيين، وهم يصرون على فرض أنفسهم قوة عالمية مسيطرة أحادية، كانوا حريصين على فرض أنفسهم أيضاً قوة إقليمية مهيمنة أو على الأقل، قوة مناوئة فى كل نظام أمن إقليمى وخاصة إقليم آسيا المحيط الهادى أو فى إطار أوسع إقليم المحيطين الهندى والهادى. بما يعنيه ذلك من منع أى قوة إقليمية على الظهور كقوة قادرة على منافسة الوجود والنفوذ الأمريكى.
المراقبون الذين أثارتهم النصوص، المتضمنة فى التقرير النهائى لأعمال المؤتمر العشرين الأخير للحزب الشيوعى الصينى، ذات العلاقة بالقضايا الأمنية والعسكرية التى وردت بشكل مكثف وغير مسبوق، حيث تكررت كلمة “الأمن” 91 مرة، وكلمة “عسكرى” 21 مرة، وكلمة “النضال” 22 مرة هؤلاء صدموا بمضامين الوثيقة البريطانية التى تم الكشف عنها مؤخراً، وعلى الأخص معرفة أن “التمرد الصينى” على النفوذ الأمريكى، وحرص الصين على فرض نفسها قوة مناوئة للنفوذ والوجود العسكرى الأمريكى فى إقليم آسيا- المحيط الهادى لم يكن وليد الوقت الحاضر ولكنه يعود إلى 22 عاما مضت وبالتحديد فى الأول من إبريل 2001 فيما عرف بـ “حادث جزيرة هانيان” التى صعدت المواجهة بين واشنطن وبكين إلى مستوى “الأزمة”.
وقعت هذه الحادثة عندما تصدت طائرتان مقاتلتان صينيتان لطائرة استطلاع استخباراتية تابعة للبحرية الأمريكية كانت تحلق فى المنطقة الاقتصادية الصينية فى بحر الصين الجنوبى، حيث قتل طيار صينى واحتجزت الصين طاقم الطائرة الأمريكية وحطامها، ورفضت الصين وقتها وساطة رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير بطلب من الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش للإفراج عن الطاقم دون اعتذار أمريكى علنى ومسبق. وبالفعل حصلت الصين على ما أرادت حيث اعترف بوش، وفقا لتلك الوثيقة أن “الولايات المتحدة قالت مرتين أنها آسفة للغاية”.
كان هذا منذ أكثر من عشرين عاما، حيث كانت بوادر التمرد الصينى فيها متصاعدة، فى مواجهة الهيمنة والسيطرة الإقليمية الأمريكية على إقليم آسيا- الهادى الذى تعتبره الصين مجالها الإقليمى، الآن نستطيع القول أن الصين تجاوزت مرحلة إعلان التمرد على القوة الأمريكية إلى مرحلة أرقى هى التصدى القوى لها، ضمن مسار يقول أن الصين تسعى إلى إخراج الولايات المتحدة من إقليم المحيطين الهادى والهندى، وأنها حريصة على أن تكون هى “القوة الإقليمية المهيمنة” أو القوة الفاعلة فى نظام أمن إقليمى ضمن أطراف أخرى ليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد أطراف تنتمى إلى الإقليم.
مرحلة التصدى الصينى للنفوذ الأمريكى أخذت أشكالا متعددة، منها محاولة اختراق حلفاء واشنطن وتنظيماتها الأمنية الإقليمية فى إقليم آسيا- الهادى والسباق مع الولايات المتحدة فى التأسيس لقواعد عسكرية بالمنطقة، والتحرش بالنفوذ الأمريكى عسكريا، ومهاجمة أى تطاول أمريكى على الصين فى المحافل الإقليمية- الدولية.
الأشهر الأخيرة الماضية كانت مفعمة بهذه الممارسات الصينية، فما حدث قبل عشرين عاما مع طائرات أمريكية اعتبرتها الصين تجاوزت “الحدود المسموحة” تكرر فى الأسبوع الماضى وبالتحديد يوم الثلاثاء الفائت (30/5/2023). فحسب بيان أمريكى صدر بهذا الخصوص قامت طائرة صينية بتنفيذ ما اعتبرته واشنطن “مناورة عدوانية” قرب طائرة عسكرية أمريكية فوق بحر الصين الجنوبى فى المجال الجوى الدولى مما جعل الطائرة الأمريكية تهتز فى أثناء التحليق بسبب الاضطرابات الجوية الناتجة عن تخلخل الهواء، فى ذات الوقت حذر وزير الدفاع الصينى “لى شانغفو” السبت (3/6/2023) من إقامة تحالفات عسكرية “شبيهة بحلف شمال الأطلسى فى منطقة آسيا والمحيط الهادى”.
هذا التحذير جاء على لسان الوزير الصينى فى كلمته أمام القمة الدفاعية الآسيوية المنعقدة فى سنغافورة وتحمل اسم “حوارشانغرى- لا”، واعتبر الوزير الصينى أن سياسة تأسيس تحالفات عسكرية أمريكية فى منطقة المحيطين الهادى والهندى “وسيلة لاختطاف دول المنطقة وتضخيم الصراعات والمواجهات الأمر الذى لن يؤدى سوى إلى إغراق منطقة آسيا والمحيط الهادى فى زوبعة من الصراعات والنزاعات هذا التحذير ربما يكون قد جاء ردا على المسعى الأمريكى لإعداد خطط مشتركة مع حليفتيها اليابان وكوريا الجنوبية لإطلاق نظام سوف يسمح بتبادل لحظى للمعلومات فى الوقت الحقيقى بشأن الصواريخ الكورية الشمالية. هذا البيان صدر عن وزراء دفاع الدول الثلاث على هامش قمة الأمن الآسيوية السبت الماضى “شانغرى- لا” التى عقدت فى سنغافورة التى شارك فيها وزير الدفاع الصينى، والتى رفض خلالها وزير الدفاع الصينى لقاء وزير الدفاع الأمريكى خلال تلك القمة الأمنية الآسيوية.
لم تكتف الصين بالتصدى للنفوذ الأمريكى فى منطقة آسيا الهادى لكنها سعت وباهتمام إلى تأسيس نفوذ عسكرى – أمنى صينى فى هذه المنطقة، حيث وقعت فى العام الماضى اتفاقا أمنيا مع دولة “جزر سليمان” الواقعة فى المحيط الهادى بالقرب من دولة “بابوا غينيا الجديدة” محط اهتمام النفوذ الأمريكى. هذه الخطوة الصينية أثارت القلق فى كل أنحاء المحيط الهادى وخاصة الولايات المتحدة التى اتجهت هذا العام إلى دولة بابوا غينيا الجديدة ووقعت اتفاقا أمنيا معها عبر وزير خارجيتها انتونى بلينكن الذى اعتبر هذا الاتفاق مع بابوا غينيا الجديدة “محاولة لتشكيل المستقبل” الملفت فى سياسة التصدى الصينية للنفوذ الأمريكى أنها تجاوزت الحدود الإقليمية ووصلت إلى أرض الولايات المتحدة الأمريكية. ففى فبراير الماضى حركت الصين منطادا حلق فوق عدد من الولايات الأمريكية اعتبرته واشنطن “منطادا للتجسس” وأسقطته ، ومنذ أقل من أسبوعين اتهمت الولايات المتحدة الصين برعاية قراصنة يستهدفون المنشآت الحيوية أمريكيا وعالميا حيث كشفت وكالات استخبارات غربية وشركة “مايكرو سوفت” الأمريكية أن قراصنة صينيين ترعاهم الدولة يتجسسون على البنية التحتية للولايات المتحدة وينشطون لوضع الأساس التقنى لتعطيل محتمل للاتصالات الحساسة بين الولايات المتحدة وآسيا خلال الأزمات المستقبلية.
مثل هذه المناوشات والصدامات تقول أن الصين لم تعد تكتفى بمناهضة النفوذ الأمريكى فى إقليمها ، ولكنها تسعى إلى نقل المواجهة مع واشنطن خارج الإقليم عبر أدوات وسياسات صينية تهدف إلى إشهار الصين قوة عالمية شريكة فى قيادة النظام العالمى.
2

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *