عالمٌ بلا زعامة حقيقية.. وبشريةٌ مصابةٌ بشيخوخة مُبكّرة!

    الفضل شلق 

ليس غريباً أن تصعد التيارات اليمينية وقبلها الأصوليات الدينية، في زمن النيوليبرالية والرأسمال المالي ونمط العيش الاستهلاكي الذي يُميّز ما يُسمى عصر ما بعد الحداثة. هو عصر ثقافة الموضة المسطحة التي لم يعد لديها إلا ما يوازي البنطلون الذي يتم تمزيقه عند الركبة كي يبدو قديماً. فكأن النيوليبرالية تريد أن تبدو قديمة، وهي تعرف أن جذورها ليست منغرزة في عمق المجتمع.

تتجه التيارات الأصولية إلى السياسة فتسمى تيارات الدين السياسي؛ تتعاطى السياسة لأنه لا يُوجد عندها شيء تقوله في الدين. الدين السياسي هو الإفراغ من الدين وطغيان الدنيا على الآخرة، والحاضر على المستقبل، والماضي على الحاضر. كما أن صعود التيارات المحافظة يعني أن أصحابها لا يريدون جديداً أو يعجزون عنه. لا يمكن تصوّر المحافظين لو أراد أحد رسم نموذج عنهم إلا ذوي عجيزة كبيرة، ورأس صغير أصلع، وشيء ما يساعد على هروب العقل من الدماغ، وتعطيل ملكة التفكير.

نطرح هذه التساؤلات، علماً بأن عصر التساؤل انتهى، ونحن في خضم أمواج عاتية من موجات الدعاية والإعلان والتسويق. صار العقل مستريحاً، أو مجرد متلقِ لما يُرمى إليه أو يُضخ في تلافيفه، فأصيب بالهرم المبكر وأمراض الشيخوخة التي تُعبّر عنها انتخابات الولايات المتحدة؛ وإذا رأينا جيلاً من الشباب في أوروبا، فهم مصابون بالشيخوخة المبكرة لأنّهم محافظون، يرفضون تعديل الحياة وأساليبها، ويُنكرون الجديد والابتكار.

لا ترى في العالم حولك زعامات كاريزماتية كما كان الأمر في نصف قرن أو أكثر. ليس هناك عبد الناصر، أو كينيدي، أو سوكارنو، أو نهرو، أو تيتو، أو كاسترو، أو خروتشوف. تخوض الولايات المتحدة انتخابات رئاسية وخيارها بين نصّاب مدان وآخر هرم مصاب بالخرف. أما في فرنسا مثلاً، فلا يستطيع رئيس شاب (إيمانويل ماكرون) مواجهة المحافظين إلا بالتحالف مع خصومه اليساريين. هو رئيس نيوليبرالي مصاب بالشيخوخة المبكرة. أيضاً ليس مُقنعاً لمعظم من ترأّسهم في بضع سنوات، بينما يُبهر الأنظار اليساري جان لوك ميلانشون. فكأن اليسار شباب دائم. وترى عند العرب قادة لا يعرفون من القراءة والكتابة إلا ما هو مفعم بالأخطاء الإملائية واللفظية وكلمات تصدر عن أوجه لا تعرف هل هي عابسة أم مبتسمة، لكنك متأكد أنها وزبائنيتها تتربص بك كي لا يشتد ضحكك عليها قرفاً من سخفها واتخاذها وضعاً يوحي بهيبة فقدتها.

الزعامة الحقيقية تُعبر عن مشاعر وحاجات شعبها، وهي تتفاعل معهم بشكل دائم، ولا تستريح ولا تسترخي؛ هي تُعبّر عن الناس، وفي نفس الوقت تحملهم على الاعتقاد أن ما يقوله الزعيم هو ما كانوا يريدون قوله. لم يعد في العالم مثل هؤلاء الزعماء؛ استرخى النظام الاجتماعي. استراح السياسي إلى مصيره، فاسترخت معه عوامل السياسة، وخلا العالم من الزعامات الحقيقية

عالمٌ من دون زعامات حقيقية يزخر باسترخاء دماغي، يقوده قطب واحد هو الولايات المتحدة. لم تعد هناك ازدواجية قطبية تُحفّز على منافسة عقلية على الأقل. مع سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم حكم الطبقة الأوليغارشية (أرباب المال)، ثم فلاديمير بوتين، حاولت روسيا الدخول في حلف الأطلسي والانضمام تحت جناح الولايات المتحدة، فكان الجواب: ابقوا مكانكم، نريدكم عدواً، ونُفضّل أن يكون ضعيفاً. ما يُحكى عن ازدواجية القطبية في العالم هراء في هراء. هي قطبية واحدة مصابة بالشيخوخة.

فقدت الرأسمالية زخمها، ووصلت إلى نهاياتها في عصر النيوليبرالية، بينما البدائل لا تلوح في الأفق. فالاسترخاء الذهني أصاب الجميع، خاصة وأن صناعة الحرب (أسلحة، جيوش) في الولايات المتحدة لا تستطيع أن تبرر نفسها دون أعداء. وإذا أراد هؤلاء الصداقة، يقال لهم ليست هذه مهمتكم. وهكذا خُصّص النظام الروسي ليكون عدواً افتراضياً. صناعة الأسلحة وملحقاتها والجيوش وكثرتها تحتاج إلى أعداء سواء في الحرب أو من دونها.

لم يعد هناك ما يُهدّد النظام الاجتماعي-السياسي السائد. وما يُطلق من تسميات اليمين واليسار على هذا الفريق أو ذاك، ما هي إلا تنويعات على نظام واحد؛ شيء واحد يُنظر إليه من زوايا مختلفة مع عدم الاهتمام بأن يكون هناك بديل. فكأن النضال البشري في سبيل الأفضل بات في إجازة طويلة. لا تتوالد الأفكار الكبرى إلا من خلال الصراع على ما هو ذي أهمية في الحياة البشرية. حتى في فلسطين، ليس هناك صراع عربي-إسرائيلي (غربي) أو فلسطيني-إسرائيلي؛ هناك حرب إبادة تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهؤلاء وسائل مقاومتهم محدودة للغاية.

تكاد نشرات الأخبار أن تكون ملحقات إعلانية، فيضطر القيّمون على وسائل الإعلام إلى ملء فراغ الوقت ببرامج يسمونها أحياناً “ثقافية”. وهي إن كانت كذلك، إنما تُعبّر عن الثقافة السطحية التي يمتاز بها عصر النيوليبرالية. كادت قضية فلسطين أن تصير قضية عالمية، أو هي صارت كذلك، لكنه عالم محكوم بالاسترخاء مادياً ومعنوياً.

ليس لدى السياسيين ما يقولونه سوى تكرار ما قاله أباؤهم وأجدادهم، مهما كان المستوى التعليمي لهؤلاء. الأمية الثقافية سمة عصر الاسترخاء الذهني. دمّرت النيوليبرالية كل القيم أو معظمها، حتى لم يبق إلا المال، وبقية أشياء الدنيا المادية. نادراً ما تسمع أو تقرأ ما يستفز ذهنك ويُثير عقلك.

الزعامة الحقيقية تُعبر عن مشاعر وحاجات شعبها، وهي تتفاعل معهم بشكل دائم، ولا تستريح ولا تسترخي؛ هي تُعبّر عن الناس، وفي نفس الوقت تحملهم على الاعتقاد أن ما يقوله الزعيم هو ما كانوا يريدون قوله. لم يعد في العالم مثل هؤلاء الزعماء؛ استرخى النظام الاجتماعي. استراح السياسي إلى مصيره، فاسترخت معه عوامل السياسة، وخلا العالم من الزعامات الحقيقية. منذ عبد الناصر، ازداد عدد البلدان المعترف بها، وازداد عدد الرؤساء، لأن كل بلد يحتاج إلى رئيس، وقلّ عدد الزعماء.

ليس ضرورياً أن تتبع هذا أو ذاك ممن يدعون الزعامة، لكن المهم أن يكون هنا وهناك قادة يستحق الواحد منهم أن تكون ضده أو معه؛ ضد أفكاره أو معها. لكن الدارج هو قادة أو رؤساء تنظر إلى سحنتهم فلا تعرف هل هم يبتسمون أو يعبسون. يخافون قول الجديد، لا لأنهم يخافون الخطأ وحسب، بل لأنهم أساساً لا شيء لديهم يقولونه.

أثار القرن التاسع عشر أفكاراً كبرى كالاشتراكية والقومية، وأثار القرن العشرين حروباً كبرى، كالأولى والثانية، وحروب تحرر قومي، وحروباً أهلية كثيرة. تكاد الحرب الأهلية تطل برأسها في كل بلد في العالم مع صعود اليمين المحافظ، إذ يريد هؤلاء إيقاف عجلة التاريخ.

تنتج الحروب الأهلية من نضوب القضايا الكبرى، فتعود النفس إلى سؤال الهوية، وهو في الحقيقة ليس سؤالاً بل اعتقاداً مسبقاً بمن أكون، وكيف أكون. فكأن التاريخ يتوقف عن الحركة. وكما يقال بالعامية “يقاتل المرء خياله”. هذه حالنا في عالم اليوم.

 

شاهد أيضاً

للذين يستعجلون الرد على الكيان الصهيوني الغاصب هَدِّئوا من رَوعكُم ففي العجلة الندامة،

كَتَبَ إسماعيل النجار المسألة ليست كما يظن البعض نضغط على الأزرار الحُمر وينتهي الأمر! نحن …