بايدن وترامب.. من أسوأ مِنْ مَنْ؟

 

    سليمان مراد

مزيجٌ من الرعب والقلق تملّك الكثيرين في أمريكا والعالم لدى مشاهدتهم المناظرة الأولى التي جمعت جو بايدن ودونالد ترامب عبر شاشة “سي إن إن”. رأوا بأمّ العين تراجع الحضور الذهني لبايدن، وهو أمر يفيد ترامب ويُقرّبه أكثر فأكثر من حلم العودة إلى رئاسة أقوى دولة في العالم ولكن هذه المرّة كشخص مُدان بجرائم ماليّة وأخلاقّية!

لم يُثِر سباق الرئاسة الأمريكية في سنة 2020 هذا الحجم من القلق الذي نشهده الآن. كان خيار الناخبين حينذاك محكوماً بأحد خيارين: إمّا إعادة انتخاب رئيس سيّء (ترامب) أو تزكية شخص (بايدن) ليس محبوباً كفاية بالضرورة لكنّه، برأيهم، الأفضل والأقدر على قيادة أمريكا وإصلاح الأضرار التي سبّبها سلفه. أمّا اليوم، فالخيار هو بين الإبقاء على رئيس عاجز (والمناظرة أكّدت بما لا يقبل الشكّ أنّ بايدن انتهى منذ الآن) أو إعادة ترامب إلى البيت الأبيض بكل علِّاته ومشاكله التي باتوا يعرفونها جيّداً.

الكارثة في كلّ هذه المشهدية أنّ أكثرية الديموقراطيّين كانت حتّى المناظرة مُصرّة على ترشيح بايدن، وأكثريّة الجمهوريّين مصرّة على ترشيح ترامب. فجاء أداء بايدن الكارثي ليقصم ظهر الديموقراطيّين.. وفي توقيت ليس مناسباً بالضرورة.

نعم، كان هناك الكثير من التفاؤل بشخصيّة بايدن في سنة 2020، خصوصاً أنّه كان قبل ذلك نائباً للرئيس وتاريخه في مجلس الشيوخ يشي بأنّه كان على قدر المسؤوليّة التي يتطلّبها منصب الرئاسة (بالطبع نحن نتكلّم عنه بوصفه ابن المؤسّسة الحاكمة). لكن سرعان ما تبخّرت آمال الكثيرين من الذين انتخبوه، عندما تبّين لهم أنّ بايدن يتبع السياسة نفسها التي كان يسير بها سلفه، في أمور وعدهم أنّه سيُغيّرها (مثل الإصلاحات المتعلّقة بالإقتصاد والعلاقات الخارجيّة والهجرة والمناخ و..). ويُمكن أن نُضيف أنّ قاعدة وازنة من المناصرين تقليديّاً للحزب الديموقراطي أصبحت الآن متردّدة في دعم بايدن لولاية ثانية كونه قرّر منذ السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي دعم فاشيّة إسرائيل من دون أي شروط أو ضوابط وتوريط أمريكا والأمريكيّين مباشرةً في أفظع مجزرة شهدها القرن الحادي والعشرين، ناهيك بالمأزق الأوكراني واحتمال التورط في أزمة كبيرة مع الصين.

لكن مشكلة “الجزّار بايدن” (Genocide Joe)، كما يُسميّه الكثيرون من تلامذة الجامعات في حراكهم غير المسبوق منذ حرب فيتنام، ليس في أنّه متورّط مباشرةً (هو وأعضاء إدارته) في مجزرة غزّة، بل في حالة الضياع الذهني والعجز الجسدي الذي يعاني منه (والذي لا نعرف جيّداً ما سببه: هل هو مرض الباركنسون، أم الخرف، أم شيء آخر؟). تكرّر هذا الكابوس لمناصري بايدن في أكثر من مناسبة مهمّة، آخرها أثناء قمّة مجموعة الدول السبع التي استضافتها إيطاليا بين 13 و15 من حزيران/يونيو الحالي. وتستوقفني هنا صورة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني تهرع وراءه لتُعيده إلى حلقة الزعماء بعّد أن شرد لبعض الوقت مُبتعداً عن الحاضرين!

الخيار بين سيّء وأسوأ، ولا ندري حقّاً من الأسوأ مِن مَن. أقول ذلك لأنّ بايدن أظهر بكل وضوح عمق إجرامه بعد ما فعله وسمح بفعله في غزّة، وأكثر من ذلك، ظهر ضعفه جليّاً أمام نتنياهو. ويُمكن القول إنّ ترامب لو كان رئيساً كان ليفعل أكثر ممّا فعل بايدن. لكن الفارق أن ترامب مصابٌ بجنون العظمة وينجرف وراء أطواره الغريبة، لذلك لا يُمكن التكهّن بما كان سيفعله

المناظرة بين بايدن وترامب لم تُبقِ على أي سترٍ مُغطّى، بل فضحت دجل كبار مساعدي الرئيس الأمريكي وأعضاء إدارته وكبار شخصيّات الحزب الديموقراطي الذين أصرّوا على أنّه قادر على تحمّل مسؤوليّات منصب الرئاسة إذا أعيد انتخابه. وإذ بنا نُشاهد شخصاً عجوزاً بحاجة إلى مأوى عجزة يهتمّ به، مع كل احترامي لهذه الفئة من البشر..

ولم يكن مفاجئاً لنا ـ غداة المناظرة ـ ما جاهر به كثيرون من الديموقراطيين مطالبين حزبهم بترشيح شخص آخر قبل فوات الأوان، لأنّ الإبقاء على بايدن يعني إهداء الرئاسة إلى ترامب على طبق من ذهب. المشكلة هنا ليست أنّ هؤلاء قرّروا الآن التسليم بعجز بايدن؛ هم يعرفون ذلك جيّداً. الكارثة أنّه انفضح أمام الشعب الأمريكي ولم يعد هناك من إمكانيّة للتغطية والتعمية على الحقيقة.

ذكّرني هذا المشهد بكتاب “لا تدع الحمامة تقود الباص” للفنان الأمريكي مو ويلامز (Mo Willems). هو كتاب للأطفال، لكن حكمته عابرة للأجيال. حبكة الكتاب أنّ سائق الباص اضطرّ لمغادرته لبعض الوقت فطلب من “القارىء” ألا يسمح للحمامة بأن تقود الباص لعلمه أنّها لو قامت بذلك ستُحطّمه. وبالرغم من إلحاح الحمامة وصراخها وتهديدها للقارىء واستخدامها العديد من الحيل، لم يُسمَح لها بقيادة الباص. يا ليت صاحبنا بايدن وفريقه قرأوا هذا الكتاب جيداً قبل ترشيحه لولاية ثانية، لكانوا وفّروا على حزبهم وما أوصلوه إلى الكارثة.

الخيار حالياً هُوَ بين سيّء وأسوأ، ولا ندري حقّاً من الأسوأ مِن مَن. أقول ذلك لأنّ بايدن أظهر بكل وضوح عمق قباحته وإجرامه بعد ما فعله وسمح بفعله في غزّة، وأكثر من ذلك، ظهر ضعفه جليّاً أمام بنيامين نتنياهو. ويُمكن القول إنّ ترامب لو كان رئيساً كان ليفعل أكثر ممّا فعل بايدن. لكن الفارق أن ترامب مصابٌ بجنون العظمة وهو دائماً ينجرف وراء أطواره الغريبة، لذلك لا يُمكن التكهّن بما كان سيفعله لو كان رئيساً (مثلاً، هل كان ليتقبّل إهانات نتنياهو كما يتقبّلها بايدن منذ تسعة أشهر؟).

ولعل لسان حال الكثيرين في أمريكا وخارجها: “أليس هناك في أمريكا أشخاص أفضل من عجوز جزّار ولصّ مغتصب”؟ وهل يعقل أن أمة بلغت ما بلغته من قوة واقتدار لا تستطيع أن تخترع خياراً ثالثاً؟

الجواب بكلّ بساطة هو أنّ أمريكا مليئة بأشخاص جديرين بأن يكونوا رؤساء، لكن الشعب لن ينتخبهم. هنا نصل إلى بيت القصيد. الداء الذي تُعاني منه أمريكا والغرب عامّة هو أنّ المرض تسلل إلى كامل الجسد، وإلا لماذا تصرّ أكثريّة المجتمع الأمريكي على اختيار واحد من بين هذين الإثنين؟

مشكلة زعامة الغرب ليست فقط في الثنائي – بايدن وترامب – الذي يتصارع الآن على منصب رئاسة أمريكا. المشكلة نراها في الكثير من النماذج التي تُمسك بالسلطة في الدول الغربيّة ولا سيما أوروبا. هنا أستذكر قصّة كنّا نسمعها ونحن صغار (على الأرجح مستوحاة من كتاب “كليلة ودمنة”؛ أو على دارج القصص التي كُنا نسمعها). تقول القصّة إنّ رجلاً عنده قرد وحمار وثعلب؛ وكان يدور بهم من مكان إلى مكان ويُقدّم العروض لتسلية الناس وإضحاكهم. وفي يوم من الأيّام، وبينما هو نائم، وجد القرد والحمار والثعلب فانوساً سحريّاً، ففركوه وخرج منه المارد، فقال لهم: “أطلبوا ما شئتم”! فطلب الحمار أن يُصبح سلطاناً، وطلب الثعلب أن يكون وزيراً، وأراد القرد أن يجعله المارد شيخ الإسلام. وعندما انتهوا من طلباتهم، انتبهوا أنّ صاحبهم نائمٌ، فأيقظوه وقالوا له: “أطلب ما شئت من المارد”.. فسألهم عمّا طلبوا، فبشّره الحمار أنّه سيعتلي السلطنة، وأنّ الثعلب سيكون وزيره والقرد سيتقلّد عمامة مشيخة الإسلام. فطلب الرجل من المارد أن يُصيبه بالعمى. فقال له الثلاثة بتعجّب: “يُمكنك أن تطلب ما تشاء من مال أو جاه، وأنت تطلب العمى”؟ فأجابهم: “نعم. أطلب العمى كي لا أرى دولتكم”!

 

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …