قراءة الروائي والاديب الدكتور عمر سعيد في لوحة الرسّام اللبناني شوقي دلال للحصاد في عانا سهل البقاع الغربي لبنان

عند حافّة اللون

تحتاج الصورة التي تعكسها ألوان الرسام إلى مسارات ليست بقصيرة، حتّى تتجلّى تشكيلاً، وجمالاً، ودهشة.
فعلى الرغم من سمو وعلو مشاعر المبدع تجاه الأشياء فيه، إلّا أن ليس كلّ ما تقع عليه عينه يثير انفعالاته، ويشعل حرائق وجدانه، ويسير في سماوات خياله رياحاً تمطر ألواناً، وتضيف مساحة فوق قماش إلى مساحات هذا الكوكب المدهش.

نادرة جداً هي المرات التي لم يستوقفني فيها عمل من أعمال المبدع شوقي دلال، ولم يراودني عن الكتابة فيه.
والكتابة في عمل إبداعي بمستوى ريشة وألوان دلال ليست مجرد تطويع للغة، بل إنها فعل خلق، لا تقل مخاضاته عن طلق الأنثى أثناء الولادة، في ليل قروي، لا سبيل إليه إلا الرجاء.

لا أدري كم عدّد المحطات التي تستفيق في المشاهد لواحد من أعماله، أمّا عني، فيستيقظ في وحش الكتابة، وينشب أظفاره في مزاجي، وينهال تمزيقاً باستقراري وسكينتي وسلامي الداخلي.
ذلك لأن الحياة ليس مجرّد متع نحصل عليها ولا مجرد غرائز نعيشها. بل إنها أعمق وأوسع من ذلك بكثير. ولا حاجة لفلسفة الحياة هنا، ففلسفة اللون تفي بذلك وتفيض.

وعلى الرغم من أني ريفي غادر الريف مبكّراً، وعجز عن الدخول في المدينة ومدنيّتها، فبقيت نصفي هنا ونصفي هناك، ولا زلت أكل طعامي بالخبز، حتّى لو كان أرزّاً، وإن جلست إلى المائدة فوق طاولة وعلى كرسي وبربطة عنق.
لذا أعادتني هذه اللوحة إلى أرضنا التي بارت مع رحيل أبي. وإلى حور عين الصويري التي أقمنا مكانها سوقاً معدنياً تفرش فيه العناكب منتجاتها ولا من يشتري إلّا الخواء. وقد طردنا منها عصافير الدوري والزرعي والحساسين، وحوّلنا حورها إلى دخان، ما نفعتنا ناره في برد الشتاء.

هي ليست مجرد لوحة؛ هي أمس بكامل تفاصيله، بمنجله، ببيوت تتسع غرفها لتوابيت القمح، وكوارات المونة. تتسع أسطحها لشوادر الكشك ومفارش المقدّد. أمس ببيادر ينبعث منها صوت مكينة الذراوة في ليال الصيف الهادئة، وقد علت عرمات قمحنا أملاً وإيماناً.
أمس شروة القمح التي استبدلتها براحة وبسكوت أحيانا، وهريسة النمورة والبوظة أخرى.

تعذبني عين شوق دلال في البحث عمّا غاب عن ذاكرتي وحضر في لوحته هذه. فذاك هو حقلنا، وجرارنا، وذاك أبي فوق صندوقه، يرصف أغمار القمح وشمايله، ويصدح بغنائه لأمّي التي مضت تلم ما تسلل وسقط من سنابل وسبل. أمي التي غاب معجنها وما غابت رائحة عجينها وخبزها عني.

إنها لوحة تفوح برائحة الحصيد، وتضج مساحتها بهسهسات القش، وتفيض بعرق الحصادة تحت شمس تموز الملتهبة.
أكاد ألمح فيها أحناش الحقل وحيّاته، تنزلق من بين أصابع الشعوبة، فتخش بين مسارب القش وتمضي.

إن دلال مبدع دقيق في هذا العمل من حيث التأليف بانسيابية تدرجات اللون المتصاعد من أسفل اللوحة إلى أعلاها.
بني كما لو أنه استخرجه من باطن التراب، إلى أصفر ذهبي ألفناه يقطن في قمحنا البقاعي، وفي وسطها أطلق ريشته تستل الأخضر من تلك الحورات، وتنثره فوق أكتاف تلال، ما زالت تنتظر معولاً وساعداً.
فوقها أوجد سماوات تفاوتت ألوانها، وما تفاوتت أمطارها في ري ابتهالات الإنسان.
أنها ليست مجرّد لوحة، إنها مناطق من جغرافيا دلال النفسية المليئة بالحب والبذل والخير.
هي لوحة تخلد بقاعنا في ذاكرة الأجيال، وتقيم اتصالاً قطعته قفزات التطور المربكة.
هي لوحة توقظ الوعي، وتغدق عليه بكثير من الصفاء والنقاء الذي كان لنا وضيعناه في مطاردة السلاح الذي لا أدري كيف تسلل إلى أكفنا، وأسقط منجلًا، كان يقطع أعناق الزرع ليحي أعناقنا التي لم تكن تعرف من شعارات السياسة إلّا “فلاح مكتفي سلطان مختفي”
فشكراً شوقي دلال.

شاهد أيضاً

عشق الذنوب

بقلم :د٠ سرى العبيدي ✍️ سفيرة الجمال والثقافة العالمية✍️ عشقت ذنوبي بعد أن شفت أيمانكم …