“يوميات مريض ممنوعٌ من الكتابة

في السبعينيات, وتحديدًا عام 1978, يُصاب الشاعر نزار قباني بنوبةٍ قلبية، ويدخُل على إثرها للمشفى. في هذه الفترة كان نزار قد جاوزَ الخمسين من عُمره بقليل، وكان مدخِّنًا شَرهًا، بجانب كونه مريضَ قلب منذ الصغر!

بعدما تمَّ حجزُه للعلاج، حاولتْ زوجته أن تزورَه، ولكنَّ الأطباء منعوها من زيارته.

في الوقت الذي كان فيه نزار يُعاني من مرضه، كان يُعاني من عذابٍ نفسي آخر، عذاب لا يشعر به إلّا المبدعون ومرهفو الحسِّ، أصحابُ البال المزاجي الذي يتأثر بأيِّ شيء، ويتفاعل مع أيِّ حدث؛ كان هذا العذاب النفسي هو عذابَ الاعتياد! ثباتُ الظروف والمشهد والمواقف!

كان نزار يُعاني ممّا يُعرف بعذاب اللَّون الأبيض، والذي قد يدفع الشخص إلى الجنون!

بعدَما علم بمنع الأطباء زوجتَه من زيارته، أثَّر ذلك في نفسيَّته كثيرًا، ودفعه إلى الكتابة الشعرية، المهنة التي احترفَها، والمتعة التي عاشَ من أجلها، وكتب وقتها قصيدة بعنوان “يوميات مريض ممنوعٌ من الكتابة” وصدرتْ في ديوان “أحبك أحبك والبقية تأتي”, والذي صدر في نفس العام 1978.

نزار قباني كان يخاطب زوجتَه وحبيبته بلقيس في هذه القصيدة بشكلٍ مباشر، حيث كان يقول:

ممنوعةٌ أنت من الدخول، يا حبيبتي، عليه..
ممنوعةٌ أن تلمسي الشراشف البيضاء، أو أصابعي الثلجية
ممنوعةٌ أن تجلسي.. أو تهمسي.. أو تتركي يديك في يديه
ممنوعةٌ أن تحملي من بيتنا في الشام..
سربًا من الحمام
أو فلةً.. أو وردةً جورية..
ممنوعةٌ أن تحملي لي دميةً أحضنها..
أو تقرئي لي قصة الأقزام، والأميرة الحسناء، والجنية.
ففي جناح مرضى القلب يا حبيبتي..
يُصادرون الحب، والأشواق، والرسائل السرية.

وفي هذه القصيدة نفَّس نزار عن مكنون عذاباته من السجن الأبيض الذي يحاوطونه به، عذابه الذي فاق تعبَ قلبه؛ حيث قالَ مخاطبًا زوجته:

أغطيتي بيضاء..
والوقت، والساعات، والأيام كلها بيضاء
وأوْجه الممرضات حولي كتبٌ أوراقها بيضاء
فهلْ من الممكن يا حبيبتي..
أن تضعي شيئًا من الأحمر فوق الشفة الملساء؟
فمنذ شهرٍ وأنا.. أحلم كالأطفال أن تزورني
فراشةٌ كبيرةٌ حمراء.

بل وطلبَ منها بشكل مباشر أنَّها عندما تأتي لزيارته عندما يُسمَح لها بأن ترتدي كلَّ ألوان الدنيا، كل المبهجات، كل الألوان الصارخة وغير التقليدية، كلها إلّا أبيض المستشفى الذي أضاف إلى تعبه تعبًا! حتى يتخلص من عذاب اللون الأبيض:

إنَّ جئتني زائرة..
فحاولي أن تلبسي العقود، والخواتم الغريبة الأحجار
وحاولي أن تلبسي الغابات والأشجار..
وحاولي أن تلبسي قبعةً مفرحةً كمعرض الأزهار
فإنني سئمت من دوائر الكلس.. ومن دوائر الحوار.

وفي عام 1999, يقوم المطرب العراقي كاظم الساهر بصياغة قصيدة “يوميات مريض ممنوعٌ من الكتابة” للكبير نزار قباني، ويصنع أغنية بديعةً جدًّا تحمل عنوان “ممنوعة أنتِ”.. وصدرت في ألبوم بعنوان “حبيبتي والمطر”. لتخلد لنا قصتين: قصة قصيدة نزار قباني وزوجته، وقصة عذاب اللون الأبيض الذي ذاقَ من ويلاتِه الكثيرُ من المبدعين ومرهفي الحس.

وعن عذاب اللون الأبيض الدائم، كتب أمل دنقل أيضًا وهو على فراش المرض، مرضه الأخير والذي أفضى إلى موته، وفي ديوانه الأخير “أوراق الغرفة 8” كانت قصيدة دنقل البديعة “ضد من” حيث وصف عذاب لون المشفى الأبيض بشكل آخر .. حيث قال:

في غُرَفِ العمليات
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ
لونُ المعاطفِ أبيض
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات
الملاءاتُ
لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن
قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ
كوبُ اللَّبن
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ.. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟
هل لأنَّ السوادْ..
هو لونُ النجاة من الموتِ
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ

 

شاهد أيضاً

بخاري زار شقير معزيا” برحيل والده

  زار سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد بخاري، رئيس “تجمع كلنا لبيروت” ورئيس …