إحباط وغضب أميركي من جولة بوتين الآسيوية

حيان نيوف

يمكن وصف الجولة الآسيوية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كلّ من كوريا الشمالية وفيتنام بأنها واحدة من أهم الخطوات الإستراتيجية لموسكو على الصعيد الآسيوي بعد أن نجحت في تطوير وتثبيت شراكتها الإستراتيجية عالية المستوى مع كلّ من الصين والهند وإيران.

ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي كانت بمثابة ردة الفعل الروسية على سياسات الخداع الأطلسية بعد سنوات من محاولات موسكو للتشبيك وبناء علاقات شراكة ومدّ جسور التعاون بينها وبين الغرب وتحديدًا أوروبا، فإن موسكو وبعد أن ثبت لها أن الغرب ينظر لتلك العلاقات من زاوية خداع روسيا واحتوائها مرحليًا إلى أن يتسنى له إتمام تسليح النازيين الجدد في أوكرانيا تمهيدًا لطعن روسيا في خاصرتها وتفتيتها لاحقًا، اختارت موسكو نهجًا جديدًا أساسه التحرك نحو أوراسيا خصوصًا ومنها إلى عموم آسيا ونجحت إلى حدّ بعيد في التعويض عما كانت تظنه شراكة مع الغرب لسنوات طويلة.

ولما كان الغرب لم يكتفِ بالدعم المطلق والمفتوح للنظام النازي في كييف، وبعد ضمّه لدول محايدة عدة إلى صفوف الناتو وآخرها كان السويد وفنلندا، ومن ثمّ سعيه لتطويق روسيا من الشرق عبر إنشائه لحلف “أوكوس” وتوسيعه ليشمل اليابان مع احتمال انضمام كوريا الجنوبية له لاحقًا، وكذلك الأمر بالنسبة للفلبين في جنوب شرق آسيا، فإن موسكو لم يبق أمامها سوى تحريك بيادقها على رقعة الشطرنج الآسيوية لبناء تحالفات جديدة لمواجهة التحرك الأنجلوساكسوني الهادف لبناء تحالفات شبيهة بحلف “الناتو” وتمتد من جنوب شرق آسيا حتّى شمال شرقها.

اختار الرئيس الروسي أن تكون المواجهة عبر حليفين قديمين لموسكو منذ أيام الاتحاد السوفيتي، الأول كان كوريا الشمالية الدولة النووية التي تجهر بعدائها وتهديداتها للولايات المتحدة، والثاني كان فيتنام الدولة الشيوعية التي لها أرث من النضال ضدّ واشنطن على الرغم من التطورات الأخيرة في العلاقة معها في السنوات الأخيرة.

كانت البداية من كوريا الشمالية حيث شكلت الاتفاقية الجديدة التي جرى التوقيع عليها بين روسيا وكوريا الشمالية خلال زيارة بوتين صدمة كبيرة في واشنطن والعواصم الغربية، ويمكن تلخيص مضمون الاتفاقية بأنها حولت البلدين إلى حليفين عسكريين، حيث جاء في الاتفاقية ما يلي:

“في حالة وجود تهديد فوري أو عمل من أعمال العدوان المسلح ضدّ أي من البلدين، ستقوم روسيا وكوريا الشمالية بتنسيق مواقفهما والاتفاق على التدابير العملية الممكنة لمساعدة بعضهما بعضاً للمساعدة في القضاء على التهديد الناشئ، وإذا تعرض أحد الطرفين لهجوم مسلح من قبل أي دولة أو عدة دول، وبالتالي وجد نفسه في حالة حرب، يقدم الطرف الآخر على الفور المساعدة العسكرية وغيرها من المساعدات بكلّ الوسائل المتاحة له”.

وليس هذا التحالف العسكري هو ما أقلق واشنطن وحلفاءها فحسب، وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية اللتين انتهجتا مواقف حادة من موسكو منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وتحدثت تقارير عن تزويدهما لكييف بالذخائر والسلاح، بل إن القلق الأميركي نابع من إمكانية تزويد كوريا الشمالية لروسيا بالذخائر التي تحتاجها في معركتها في أوكرانيا، وكذلك إمكانية قيام روسيا بنقل تكنولوجيا السلاح الحديث لكوريا الشمالية وخاصة في مجال الطيران الحربي الحديث، وكذلك تكنولوجيا الصواريخ الفرط صوتية التي تمتلكها كوريا الشمالية بالفعل، والأمر ينسحب على تكنولوجيا الفضاء والغواصات النووية وغيرها.

والأمر الآخر الذي يمكن أن يحققه هذا التحالف الجديد يتعلق باحتمالية الصدام المباشر بين الناتو وروسيا على الساحة الأوكرانية، وخاصة بعد سماح واشنطن ودول أخرى في “الناتو” لكييف باستخدام السلاح الغربي لاستهداف عمق الأراضي الروسية، وهو ما يستدعي من موسكو ووفقًا لما أعلنته في أكثر من مناسبة إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي الأوكرانية بعمق 300 كم حتّى نهر الدنيبر أو غربه، وبالتالي فإن احتمال الصدام مع قوات “الناتو” بات مرتفعًا، وهذا الصدام في حال وقوعه فإنه يلزم كوريا الشمالية وفقًا للاتفاقية الجديدة بتقديم العون لروسيا ضدّ الدول التي تستهدفها، ومن المعلوم بأن لدى كوريا الشمالية من الصواريخ البعيدة المدى ما يغطي ثلث مساحة الولايات المتحدة، وهو ما قد يشكّل عامل ردع خطير لواشنطن في حال فكرت بالصدام مع روسيا في أوكرانيا خصوصًا أو في شرق أوروبا.

المحطة الآسيوية الثانية للرئيس الروسي كانت فيتنام التي دخلها بوتين من بوابة العلاقات التاريخية والمتجذرة، والتي تعود إلى العهد السوفياتي والنضال المسلح ضدّ الاحتلال الأميركي لهذا البلد، وخرج منها بعد التوقيع على 11 اتفاقية ثنائية بين موسكو وهانوي تشمل مجالات متنوعة في الاقتصاد والتجارة والنقل والتعليم والطاقة وغيرها.

وعلى الرغم من أن واشنطن سعت خلال العقدين الفائتين لتطوير علاقاتها مع فيتنام في محاولة منها لاحتوائها تمهيدًا لدمجها مع جارتها الفلبين في تحالف جنوب شرق آسيوي معادٍ للصين، ومستغلة مخاوف وخلافات فيتنام مع بكين حول الحقوق البحرية في بحر الصين الجنوبي، وحاجة هذا البلد إلى التكنولوجيا الحديثة، فإن فيتنام حرصت على المحافظة على مسافة ما بين إقامة علاقة جيدة مع واشنطن وبين الحفاظ على قرارها السيادي والمستقل ورفضها التبعية لواشنطن بالرغم من الضغوط والإغراءات التي تتعرض لها من واشنطن.

لم يكن الغضب والإحباط الأميركيَّين من زيارة بوتين إلى فيتنام بأقل من زيارته لكوريا الشمالية بل ربما فاقه بكثير، ذلك أن واشنطن التي سبق لها أن رفعت علاقتها مع فيتنام إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية وجدت نفسها قد فشلت في تحويل هذا البلد إلى تابع يحقق مصالحها في جنوب شرق آسيا وامتدادًا إلى المحيطين الهندي والهادئ.

وقد ظهر هذا الإحباط والاستياء عبر بيان السفارة الأميركية في فيتنام تعليقًا على زيارة بوتين: “لا ينبغي لأي دولة أن تمنح بوتين منصة للترويج لحربه العدوانية، وإذا كان قادرًا على السفر بحرية، فقد يؤدي ذلك إلى تطبيع انتهاكات روسيا الصارخة للقانون الدولي”.

ولم تتوقف الهيستريا الأميركية عند هذا الحد، بل سارعت واشنطن للإعلان عن زيارة لكبير دبلوماسييها لشؤون شرق آسيا إلى فيتنام لإعادة التأكيد على التزام أميركا بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وصحيح أن الولايات المتحدة تمثل الوجهة الأولى للصادرات الفيتنامية، غير أن فيتنام تتمتع باتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وكذلك بعلاقات اقتصادية واسعة مع جارتيها الصين والهند.

لقد انتهجت فيتنام إستراتيجية تقوم على تنويع علاقاتها، ورفضت على الدوام التدخل الأميركي في شؤونها، ومؤخرًا رفضت المشاركة في مؤتمر السلام حول أوكرانيا في سويسرا بسبب عدم حضور روسيا، بينما أوفدت نائب وزير خارجيتها إلى اجتماع مجموعة بريكس في روسيا.

لا شك بأن روسيا التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع الصين مؤهلة لتكون صمام أمان لفيتنام، ومنصة تستطيع فيتنام من خلالها التوصل إلى حل بينها وبين الصين على الحقوق البحرية في بحر الصين الجنوبي، على عكس واشنطن التي تسعى للعب على هذا الخلاف وصب الزيت على النار بين الدولتين الجارتين.

في الختام؛ يمكن القول إن القيصر الروسي ينجح في تفكيك خط النار الذي تحاول واشنطن وحلفاؤها تطويق روسيا به والدفع بها للانكفاء على نفسها تمهيدًا لتقسيمها، وهو ما أعلن عنه صراحة الرئيس البولندي “أندجي دودا” في كلمته في مؤتمر السلام حول أوكرانيا في سويسرا، وأما النجاح الثاني لبوتين من خلال جولته الآسيوية فيتمثل بإجبار واشنطن على تشتيت قوتها وبعثرة أوراقها من جديد.

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …