أزمة المثقف العربي بين الإبداع والفكر المعاصر

بقلم /لطيفة محمد حسيب القاضي

مازال المثقف العربي يعيش أوهاما لها دور في حياة المجتمع العربي، ويغيب دائما عن وعيه سؤال مفصلي: هل المثقف العربي له دور أم هو مرآة لواقع صعب؟
تعد الثقافة شكلاً من أشكال المعرفة البشرية، والتي تعمل على ترسيخ أساسيات التفكير المنطقي، وزيادة الوعي بالمدرك العام؛ لأن الثقافة والمعرفة والحضارة دائرة متداخلة، وإن المعرفة تشكل الثقافة والإنسان صاحب الثقافة، وصانع الحضارة المعرفية، وترتكز الثقافة على أسس فلسفية لمجموعة من منتجات واعية تدخل في تكوين الوعي، وتشكيله في ضوء فلسفة الوعي؛ لأنها تعتمد على الديالكتيكية (التأثير والتأثر) وأن الكائنات الإنسانية هي التي تصنع تاريخها؛ إذ أن المثقف لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن هذه المعطيات.
إن تقدم الأمم والشعوب أو حتى تأخرها قائم على تأثير العوامل الثقافية والدينية، ومن هذا المنطلق لقد أسس حراك التاريخ. هذا التأثير الثقافي الديني لم يكن غريبًا على الفكر العربي المعاصر حيث أن الفكر، والثقافة العربية انقسما إلى أيديولوجيين؛ فكانت العوامل المادية والاقتصادية في المقدمة، ومن خلال العوامل الثقافية يفسر بها الظواهر السياسية، والاجتماعية، وقام بعض العلماء والأدباء المعاصرين بنقد البنية الثقافية العربية المعاصرة باعتبارها الأساس الفعلي للمحنة الحضارية وأسباب التخلف والهزيمة ومن هنا تكمن معضلة السؤال: لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون؟ بالتأكيد كانت العوامل الثقافية الكامنة في العقل العربي، والنمط الخاص بتصوراته في شأن الانسان والتاريخ تقف وراء هذا التخلف، ومن هنا أتجه المثقف العربي في عمله إلى التغيير للاطلاع، وتنمية المجتمعات، والتوحيد القومي للأمة العربية، والنهضة واسترجاع الهوية، والحضارة العربية؛ فكان الفكر العربي المعاصر عبارة عن تيارات فكرية شهدها النصف الثاني من القرن العشرين حيث أنها كانت نتيجة متغيرات سياسية واجتماعية وتاريخية في العالم العربي، وخاصة عندما تحررت أغلب بلدان الوطن العربي وجاءت عدة نكسات على العالم؛ فأخذ المبدع العربي في بحثه المستمر عن هوية تائهة في دوامة من الأفكار فأصبح الواقع في فخ الذاكرة.
كانت البدايات في عام ١٩٤٨ “نكسة فلسطين “، وحرب عام 1967التي تُعد نكسة وأزمة فعلية عانت منها جميع الأمة العربية وفكرها الثقافي، ولقد كانت النكسة أختبارًا للأيديولوجيا التي تواجه هذه الثورات، وأيضا للطبقات التي عملت على النهضة بها. لقد أصيبت الأمة العربية بحالة من الأنانية والتشرذم وانهارت معها الأصول والتقاليد ؛ بل انقلبت كل الأمور رأساً على عقب؛ وكانت النتيجة سقوط الهوية وموروثاتها وتوالت النكسات وما أحدثته من تصدعات هائلة في البنية النفسية والسياسية والاقتصادية للدول العربية، وقائمة النكسات العربية تطول؛ التي كان سببها الرئيسي الاستبداد، ومن هنا تحول العالم العربي بعد النكسات حتى وصل إلى مرحلة الصدام المسلح بين الدول العربية وبالتالي حدث صدمة في الوعي العربي، ويتجلى ذلك في الكتابات التي تناولت موضوعات التجربة النهضوية العربية، فشعر المبدع بحالة من الاضطراب الفكري والنفسي، ولقد أصيب الكتاب القوميين والتقدميين بنكسة فكرية ثقافية، ومن هنا ظهرت قضايا الهوية والديمقراطية والعلمانية وإشكاليات في الفكر العربي المعاصر حيث أصبح يمثل صورة الواقع العربي في الفكر العربي.
وهنا يكمن السؤال: لماذا تأخر العرب عن ركب الحضارة والثقافة والوعي؟
في القرن التاسع عشر في الثمانينات تشّكل وعي عميق لدى العرب المثقفين بالتأخير، وعلى أساس ذلك كان لابد من قيام النهضة فبدأت الرأسمالية الأوربية تغزو العالم صناعيا وايديولوجيتها الليبرالية، وفي الوقت نفسه كان هناك احتلال في معظم دول الوطن العربي فأدرك العرب بأنهم أمة استسلمت للنوم الطويل، وأصبحت هدفًا للطامعين، وكان العرب وقتها في موقف مزدوج من الغرب ما بين الإعجاب بحضارتهم وتقدمهم والكراهية للغرب الغازي والمهيمن على بلادهم وكل هذا لا يقوم على خدمة القضية القومية بل يضعها في أزمة دائمة، ومزمنة، وتخلف وتأخر وجمود فكري وثقافي. في سياق ذلك كانت النهضة الفكرية التي عرفها التاريخ لم تقم بتخطيطها الحكومات بل قامت على يد نخبة تحمل هم الحاضر والماضي وهذه النخبة تستقطب النشاط الفكري في بلادها عن طريق الحوار البناء بين أفرادها والرؤى الفلسفية المستقبلية.

معوقات الفكر العربي
إن غياب النسق الفلسفي أدى إلى العجز عن إنتاج مدارس فلسفية؛ لأن الفكر العربي سارَّ بمحَاذاةِ الفكر الغربي، وأن بعض المفكرين لم يهتم بالقيمة النهضوية التقدمية أدى ذلك إلى انعدام الاستقلال الفلسفي للفكر العربي فعمل العرب على استيراد الحلول الجاهزة للمشكلات من الغرب، وقاموا بإهمال المنظومة التربوية مما أدى إلى تعثر العقلانية والمسألة النقدية لمعظم القضايا.. العرب يعيشون في ذاكرة الماضي أكثر من التطلع لبناء مستقبلهم وتقدمهم فجاء الأوروبي فعمل على تشكيل دورٍ حقيقيٍ في خلق التأثيرات الفكرية والسياسية؛ ونتيجة لذلك ظهرت مواقف سلفية لاستعادة الماضي ووقف النموذج الغربي.
ما الإبداع، وما هي أزمة الإبداع؟
يعرف الدكتور “محمد عابد الجابري الإبداع قائلاً: “إن الإبداع خُلق من عدم أي اختراع شيء وأنتاج نوع من الوجود بواسطة إعادة تراكيب أصلية للعناصر الموجودة، وأن الإبداع يندرج نحو مفهوم الجدة والأصالة”
ثمة تناقضات أيديولوجية تهيمن على الفكر والإبداع المعاصر تتجه إلى مزيد من العنف، وهذا يدل على تجذر الطرح الإشكالي. ومن هنا كان مفهوم الديمقراطية من أكبر اهتمامات مفكري عصر النهضة وبالتالي بعد أن فشلت الديمقراطية في التجارب البرلمانية العربية اختفى قليلا شعار الديمقراطية السياسية ليكون في الصدارة شعار الديمقراطية الاجتماعية لدى المثقفين العرب إيمانًا منهم بأن سبب إخفاق المشروع القومي هو غياب الديمقراطية.
ومن هنا أصبح التركيز على الديمقراطية؛ لتقدّيم فكراً وثقافًة للمجتمع العربي للخروج من فترة التخلف؛ ولذلك فقد أكد المثقفون العرب أن الخروج عن إطار الديمقراطية لا يقدم حل لأي شيء باعتباره علاقة بين قوى المجتمع المختلفة ولا يمكن أن تكون نظاما للحكم بدون أن تكون نظاما للمجتمع ككل.
تكمن أزمة إبداع الفكر العربي بالواقع العربي في قضايا كثيرة، وأصلها النموذج والسلف لأن المفاهيم في الواقع مستدعاه من الماضي أو مستوردة من الغرب وهذه المفاهيم المتعارف عليها تقوم بالتضليل الأمر الذي أدى إلى عقم في الفكر العربي وافتقار “الذات العربية”، وإلى الاستقلال التاريخي ومعنى الاستقلالية وعدم الاستطاعة بالتفكير بطريقة موضوعية وأصبح التفكير من خلال ما ينقل عن الماضي أو الآخر الغربي.
. كيف نتجاوز أزمة الفكر العربي المعاصر؟
أهم ما يمكننا العمل به هو أن يكون لدينا التصور الصحيح للإصلاح الفكري لكي ننجو من الفكر العليل وجهل الحقيقة، وعلة الفهم والتفكير للخروج إلى دائرة الايجابية الفكرية والثقافية. يجب إعادة بناء الذات العربية بالشكل الذي يجعلها قادرة على مواجهة تحديات العصر، وبناء الحاضر عن طريق إعادة استيعاب الماضي وتفكيك عناصره بصورة تجعله قادراً على أن يؤسس نهضة، ويكون أرضًا لأقدام المستقبل، والتحلي بأخلاق الإسلام وحب التضامن والتآزر بعيدا عن الاستعلاء والنظرة الدونية للآخر حيث يقول المؤرخ الفرنسي آرنست رينان: ” لم يدَّعِ محمّدٌ أبداً القدرة على إحياء الموتى ولم يصلب نفسه بين السماء والأرض ثم يحيا بعد موته، بل جعل معجزته هذا القرآن ذاته الذي لم يستطع أي بشر حتى الآن أن يأتي بمثله” فعلاً إن كل عظمة ذلك الشخص الكبير هي أنه كان يقول ويكرر: “إنما أنا بشر مثلكم”.
لابد من التعامل مع هذه الأزمة باعتبارها مسألة موضوعية ارتبطت بسياق معين في الفكر العربي والتاريخ المعاصر للأمة العربية، وتاريخ الصراع الأيديولوجي الذي يمثل مجموعة من الإرادات المحكومة بصراع المصالح والاستراتيجيات التاريخية، بالإضافة إلى أنه يجب التركيز على الخصوصية الوطنية لكل شعب، والانفتاح على ما أضافته الإنسانية في مختلف العلوم والابداعات الفكرية الثقافية، والابتكارات الايجابيةضمن المنظور الإسلامي الموحد دون تطرف، ولا غلو، وبعيدا عن النظرة التشاؤمية. إن هذه الأزمة تحتاج إلى زعيم الرأي لكي يعمل على إزاحة الشبهات ويصدع الحق ويهزم الباطل ويرشد إلى الطريق الأقوم وتوجيه الإنسان إلى أنماط التفكير السليم والتعريف بأهمية تحديد الأهداف وكيفية انتقاء السبل الفاعلة لتحقيق الامكانات وفقا للإمكانيات المتاحة.

ومن هنا أدعو إلى العودة إلى التراث والموروث الثقافي الإسلامي دفاعا عن الذات والهوية والثقافة العربية التي هي في أمس الحاجة إلى ذلك، ويجب علينا بناء وعي ذاتي نقدي ذي خصوصية عربية، وأن تكون فلسفة التاريخ نابعة من الحاضر من أجل تأسيس الوعي المؤدي إلى طريق المستقبل وتحقيق الاستقلالية التاريخية للذات العربية وذلك لن يأتي إلاعن طريق التحرر أولاً، وقبل كل شيء إعادة بناء شامل للفكر العربي.

شاهد أيضاً

ماذا يكون موقف إيران أذا شنت اسرائيل حربها على لبنان ؟

د. جواد الهنداوي   لم أخترْ عنوان المقال ،مثلما يتم تداول السؤال ،في الوقت الحاضر …