السقوط الحر أو الانتحار الطبقي للرأسمالية المصرية!

محمد عثمان

إعادة تكليف رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي بتشكيل حكومة جديدة، قبل أيام قليلة، ليس إلا مؤشراً جديداً على حقيقة الأزمة الشاملة التي تعيشها مصر حالياً؛ وتأتي شموليتها من أنها أزمة في طرف الحُكم تقابلها أزمة في طرف المحكومين.

بتنحية أزمة المحكومين جانباً، فإن أزمة الحكم هي أنه عبر أكثر من نصف قرن من حكم الرأسمالية المصرية، وصل الاقتصاد المصري إلى أفق مسدود، نتج عنه أزمة معيشية خانقة تعصف بالشعب المصري وتُقوّض قدرته اليومية على تلبية ضرورات العيش بشكل متزايد.

تراكمُ جبلٍ من الدين الأجنبي ناتجٌ عن اقتراض مفرط لتوفير احتياجات البلاد من العملة الصعبة اللازمة لتمويل الاستيراد الذي توسع بشكل مرضي نتيجة تقويض القدرات الصناعية المصرية منذ استبدل أنور السادات مشروع إحلال الواردات المصرية بمشروع انفتاح اقتصادي سعى لتحويل مصر إلى محطة جذب كبرى للاستثمارات والتوكيلات الأجنبية.

وبالرغم من أن أزمة الدين تبدو هي جوهر المشكلة، فإنها في الحقيقة ليست سوى قمة جبل الجليد التي تخفي تحتها فشلاً هيكلياً لاقتصاد طرفي يتغذى على الأموال الساخنة وتنشط فيه المضاربات وأنشطة الظل على حساب الإنتاج الحقيقي.

ومن القمح حتى مواد التصنيع الدوائي إلى أبسط المستهلكات، رسّخت الرأسمالية المصرية حكمها وفق قاعدة التجارة والاستيراد التي جعلت مصر مجرد سوق استهلاكي يخدم نمو التجارة العالمية وكمجال إضافي لتوظيف فوائض رأس المال العالمي، ما وضع الاقتصاد المصري في حالة تبعية نموذجية تعتمد على استمرار سريان القروض إلى شرايين اقتصادية متصلبة؛ تلك القروض التي خلقت حلقة مفرغة من الأزمة والانفراج المتوالي يُهدّد انقطاعها بهلاك الاقتصاد المصري كله. تلك التبعية الاقتصادية تجلب قيودها السياسية معها وتضع استقلال البلاد في موضع الشك وعدم اليقين، هذا الضباب بخصوص استقلالية القرار السياسي المصري تزامنت مع أزمة إقليمية حادة تتمثل في حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة والتي دخلت شهرها التاسع على التوالي.

إن أزمة الحكم اقتصادية بالأساس ومعها تبعاتها السياسية الحتمية، أي أنها أزمة شرعية الخيار الرأسمالي في مصر.

***

عنت التصفية المنهجية للفضاء السياسي، أن كل الخيارات الاقتصادية والسياسية هي النتاج الحصري لهيمنة طبقية؛ هيمنة تمثلت في احتكار المنافع الاقتصادية للهيمنة على السياسة، وفرض الثمن الباهظ لهذه المنافع على الشعب الذي لم يُشارك في تحديد الخيارات الاقتصادية والسياسية التي قادت إلى المأزق الحالي

شرعت مصر في التعاون الكثيف مع صندوق النقد الدولي منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، وقد تولى الصندوق إعادة تكييف الاقتصاد المصري هيكلياً بما يسمح بدمجه مباشرة في الاقتصاد العالمي. ويمكن اختبار أثر تدخلات الصندوق في الأزمة الحالية.

تتكون “روشتة” الصندوق الثابتة من خليط من التغييرات الهيكلية ركيزتها تصفية قطاع الدولة الاقتصادي، وهو القطاع الذي تم تشييده في العصر الناصري وكان يُوفّر جزءاً هاماً من احتياجات السوق المصرية، على مستوى السلع الاستهلاكية وبعض الصناعات الثقيلة، لكن الجزء المتمم لهذه التصفية هو الاستيلاء على مداخيل ومدخرات المصريين عبر سياسات نقدية تمثلت في التخفيضات المتواصلة لسعر صرف الجنيه المصري وصولاً إلى تحريره الكامل في مواجهة الدولار على يد الحكومة المستقيلة.

إن موجات التضخم المُكثفة غير المسبوقة التي شهدها الاقتصاد المصري في الأعوام العشرة الأخيرة تعني ببساطة إنزياحاً مباشراً للثروة من جيوب المصريين لحساب خدمة الدين، بصرف النظر عن الحجة الباطلة التي تُروّج لأن تخفيض قيمة العملة المحلية يؤدي إلى دعم تنافسية الصادرات المصرية. إن فائض القيمة المنهوب عبر التضخم يعني أن المقابل الفعلي للأجر المدفوع مقابل كل ساعة عمل اجتماعي يتناقص بشكل متزايد حتى في ظل الزيادات الهزيلة في الأجور والتي لا يتحصل عليها سوى العاملين بالجهاز الإداري للدولة، وهي زيادات هزيلة لأنها لا تُعوّض سوى جزء ضئيل من التدني المهول في أجر ساعة العمل. بالإضافة إلى هذا، استهدف الصندوق تراجعاً مستمراً عن حصة الدعم في الموازنة العامة للدولة، دعم الخبز والصحة والوقود، وكان آخر تعبير عن ذلك قرار حكومة مدبولي قبل استقالتها بيومين بزيادة سعر الرغيف (الطعمية) بنسبة 300% (من خمسة قروش إلى عشرين قرشاً للمرة الأولى منذ منتصف التسعينيات الماضية).. وهكذا، جرى تسليع كل شئ في مصر، وبدا كأن العقد الاجتماعي الذي أسّسته ثورة يوليو 1952 قد طُرح جانباً، لمصلحة تسليع خدمات كانت فيما سبق أهم مكتسبات الشعب المصري.

عملياً، قامت الرأسمالية المصرية بتحويل الاقتصاد المصري لاقتصاد تابع يعاني ندرة في العملة الصعبة، ويتأثر بكل تغير عالمي في أسعار مستورداته الرئيسية وعلى رأسها القمح، اقتصاد لجأ لتمويل عجزه بقروض قصيرة ومتوسطة الأجل، لتمويل مزيد من الاستيراد ومن الإنفاق البذخي السفيه الذي يلائم الطبيعة الطفيلية للرأسمالية المصرية، بينما تتدنى القدرة الإنتاجية المصرية كلما تراكمت القروض وكلما خضع الاقتصاد المصري لإملاءات صندوق النقد.

***

تبدو قناعة الدولة المصرية متمركزة حول آليات علاج ميكرو اقتصادية، مستوردة من مدرسة شيكاغو، وتحمل بصمات النيوليبرالية المتوحشة في شكلها الذي عبّرت عنه مارجريت تاتشر ورونالد ريغان، بينما هناك إهمال تام لمجال الاقتصاد الكلي، ربما لأن هذا الهيكل الاقتصادي الخاضع لشروط تبادل عالمي لا متكافئ هو ما يُوفّر للرأسمالية المصرية القسط الأكبر من المنافع كرأسمالية توكيلات بالأساس.

في هذا الإطار، يُمكننا أن نرى قرار الحكومة بزيادة سعر رغيف الخبز؛ التلويح برفع أسعار 3000 صنف دوائي بالإضافة لزيادات جديدة في أسعار الكهرباء والوقود. إن إعادة التسعير تلك تعني تقليص قيمة بند الدعم في الموازنة العامة لتخفيف أعباء خزينة الدولة وتفريغها لوظيفة محددة هي وظيفة جباية المزيد من فوائض قيمة عمل المصريين لمصلحة مدفوعات الدين. تخفيف الأحمال الكهربائية ورفع قيمة الخدمة العلاجية في المستشفيات الحكومية، جميعها أشكال مختلفة للانقضاض على ما تبقى من مداخيل الشعب المصري، وهي ممارسات تتم في ظل تمركز شديد للثروات في القطب الآخر من المجتمع المصري من أصحاب الثروات المقومة بمليارات الدولارات.

لم يكن خيار الاقتراض خياراً جماهيرياً، بل خيار تحالف طبقي مسيطر، وهو تحالف طبقي غير ديموقراطي، وهذا هو المظهر الآخر لأزمة الحكم، والحكم ليس هو السلطة الحالية ولا السابقة، بل هو حكم الرأسمالية المصرية والقطاعات المهيمنة فيها؛ إنها قطاعات لا تحكم بناءً على إجماع شعبي أو تجديد للعِقد الاجتماعي الذي صاغته الجمهورية التي تأسست بعد 1952؛ إن التحالف الطبقي الحاكم الذي استولى على جهاز الدولة عبر انقلاب داخل الرأسمالية المصرية في 1971 ظل يستمد شرعيته الجماهيرية عبر الحفاظ النسبي على الوظيفة الاجتماعية للدولة المصرية في مقابل ولاء الجماهير التي تمتعت بالميزات الاجتماعية التي كان يقدمها هذا الجهاز، غير أن تسارع عمليات تصفية هذه الميزات واستبدالها بالوظيفة الاجتماعية للقمع وحده إنما ينزع أي طابع إجماعي أو شعبوي عن الدولة والتحالف الطبقي الذي يديرها، بينما عنت التصفية المنهجية للفضاء السياسي، أن كل الخيارات الاقتصادية والسياسية هي النتاج الحصري لهيمنة طبقية؛ هيمنة تمثلت في احتكار المنافع الاقتصادية للهيمنة على السياسة، وفرض الثمن الباهظ لهذه المنافع على الشعب الذي لم يُشارك في تحديد الخيارات الاقتصادية والسياسية التي قادت إلى المأزق الحالي.

***

ما هي مآلات المأزق السياسي الإقتصادي؟

لا تبدو الرأسمالية المصرية قادرة على حل المأزق برغم أنه من صناعتها بالكامل. إنه قانون عملها. لماذا؟ لأن حلّه يفترض بها الاستدارة الكاملة عن طريق بدأته منذ سن قانون الالتزام في عهد الخديوي إسماعيل. لم تقاتل تلك الرأسمالية لأجل سوقها. نامت في وحل التبعية منذ المهد، وهي الآن في طريقها إلى اللحد. لقد وصلت إلى قمة الجبل وهي تتدحرج من فوقه كصخرة ومعها الاقتصاد المصري كله، صخرة لا سبيل لإيقافها. فقرار من نوع تخفيض فاتورة الاستيراد، يلزمه إطلاق تنمية تتوخى الاكتفاء الذاتي من سلع الاستيراد الرئيسية، في الزراعة وفي الصناعة، لكن قبل تخفيض تلك الفاتورة يلزمها التعامل مع مديونية غير مسبوقة، مديونية تخصها هي دون غيرها، أي أن تقتطع من مواردها لسد ديون لم يجلبها سواها، هذا بالطبع تصور افتراضي، فقد فشلت كل الدعاوى التي طالبت بضريبة تصاعدية على الدخل، وفشل تمرير هذه الضريبة على قطاعها المالي المتضخم تحديداً، ثم أنها ستكون مطالبة بتقشف تفرضه على طبقات تعاني من تدهور أوضاعها المعيشية أصلاً. تقشف يطال أنماط استهلاكها الترفي الذي تصل فاتورته إلى مليارات الدولارات، وفي الوقت نفسه، رفع قبضتها عن مداخيل الغالبية العظمى من الشعب التي لن يؤدي تدهورها إلا إلى مزيد من التباطؤ الاقتصادي.

حين ينفلت السهم من الرمية، سوف تجد الرأسمالية المصرية نفسها معزولة عن بقية شرائح المجتمع، غير أن استمرار الاضطراب سوف يُعيد للطبقة وحدة جميع أطيافها

باختصار، على الرأسمالية المصرية أن تكون كل ما لم تكنه في أي لحظة من تاريخها، أي أن تنتحر طبقياً، وهذا ما ليس مطروحاً على جدول أعمالها، لذا فإن مأزقها الهيكلي سوف يتعمق.

***

إن السقوط الحر سوف يستمر. تقشف يؤدي إلى تباطؤ. ديون تدخل في مشروعات بنية تحتية – وإن بشكل أقل جموحاً من السابق – وفي تسديد خدمة الديون. إنزياح متواصل للثروة الاجتماعية من قطب لآخر. تدني الخدمات. تدهور الأمن الغذائي لملايين المصريين ممن يعانون من سوء التغذية بينما تُهلك التخمة الآخرين. هذه الحلقة المفرغة سوف تستمر لكن ليس إلى ما لا نهاية، وحدودها هي وصول مصر إلى حد عدم القدرة على الإيفاء بديونها بعد أن تكون قد تخلت عن سيادتها على أراضيها بالكامل عبر عمليات بيع وعمليات تخارج لمصلحة الأجانب من الشركات الرئيسية، وسوف يسمح رأس المال الاحتكاري الدولي بهذا التهاوي حتى يدرك أنه لم يتبقْ لدى مصر ما تقدمه. وهذا الذي تقدمه إنما يتجلى في ما تبقى من أراضيها وسيادتها وموجات تقشف قاسية تُفرض على الشعب؛ موجات لن يحدها سوى الإملاق أو الإفقار التام للجماهير المصرية أو اندلاع حريق شعبي عارم. ولا يُعدُّ تجرؤ الحُكم على رفع سعر رغيف الخبز أربعة أضعاف سعره، الخبز الذي هو المصدر الرئيسي للسعرات على مائدة القطاعات الشعبية المصرية التي لا تشهد تواجد البروتين الحيواني إلا فيما ندر، لا يُعد هذا سوى دلالة على شراسة الهجمة وعمق مأزق الرأسمالية المصرية التي جرّبت في مساء 17 يناير/كانون الثاني 1977 تحريك سعر الخبز ودفعت الثمن انتفاضة زلّزلت حكم أنور السادات وكادت أن تودي به. فما هي احتمالية خروج المحكومين إلى الشارع؟

ثمة ضغط مستمر تمارسه الرأسمالية المصرية على ظروف معيشة المصريين: تردي الخدمات. التضخم. تدني الأجور بالإضافة إلى شعور المصريين بالمهانة الوطنية جراء انفلات العدو الصهيوني على حدود مصر الشرقية بلا رادع ومجازره في قطاع غزة، والحرب الأهلية في كل من ليبيا والسودان والتهديد الوجودي الذي يتمثل في استباحة اثيوبيا لحقوق مصر في مياه النيل، وانسداد الأفق السياسي، كل هذا يُشكل مادة قابلة للانفجار في أي لحظة، غير أنه انفجار غير حتمي. فقد يؤدي هذا الضغط المكثف إلى تبلور رد فعل جماعي، جماهيري، انتفاضي ومتمرد على غرارانتفاضتي 1977 و2011 اللتين جاءتا في ظروف أقل قسوة من الظروف الحالية.

إن سنوات طويلة من التجريف الممنهج للثقافة السياسية، للعمل النقابي، للعمل الجماهيري أدت إلى انفجار انتفاضة 2011 بهذا الشكل العفوي الذي افتقد للخطة والهدف الاستراتيجيين؛ هذا التجريف قد صار بعد 2013 أشد عنفاً، مع تشديد القبضة على المجتمع المصري، وهو رهان شديد الخطورة، قد يُنتج انفجاراً غير منظم بوصفه الشكل الوحيد لخيار الخلاص الجماعي المطروح حالياً، الأمر الذي من شأنه أن يُهدّد وحدة الكيان المصري، وهو ما قد لا تسمح به قمة الرأسمال الاحتكاري الدولي بالضبط كما لا يمكنها أن تسمح بوصول مصر إلى حافة الفشل في تسديد ديونها. لكنه أيضاً يمكن أن ينتج انحلالاً اجتماعياً وجنوحاً جماعياً للخلاص الفردي عبر الهجرة أو الانكفاء على الذات وتفشي الإدمان والمرض النفسي، فضلاً عن الارتداد إلى أشكال اجتماعية تُوفر قدراً من الأمان المفقود؛ أشكال تتراوح بين التطرف الديني والإرهاب الفردي وتفشي الجريمة أو الارتداد إلى الانتماء الجهوي أو العشائري أو القبلي

. ***

قد تحاول الرأسمالية المصرية كسب الوقت عبر مساومات مع الدائنين ومزيد من التنازلات للرعاة الإقليميين، وعبر إزاحات في قمة سلطتها وتحركات شكلانية سوف تكون محصورة في بيروقراطية دولتها باعتبار أن هذه البيروقراطية تتوفر لها أدوات الضبط الصارم المباشر الذي سوف يظل خيارها الرئيسي حتى مع أي ديكورات شكلية يمكن أن تنهجها أو لا تنهجها تبعاً لتطور الأمور. كما أنه ليس مُستبعداً أن تتم الاستعانة بترسانة قوانين الطوارئ والأحكام الاستثنائية لأجل الضبط المقونن للناس إذا ما ضاقت الحلقة حول أعناقهم. وحين ينفلت السهم من الرمية، سوف تجد الرأسمالية المصرية نفسها معزولة عن بقية شرائح المجتمع، غير أن استمرار الاضطراب سوف يُعيد للطبقة وحدة جميع أطيافها..

شاهد أيضاً

بخاري زار شقير معزيا” برحيل والده

  زار سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد بخاري، رئيس “تجمع كلنا لبيروت” ورئيس …