جو بايدن والسياسة «المنحوسة»

د. محمد السعيد إدريس

يبدو فعلاً أن السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط «منحوسة» على حد وصف رئيس المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية «ريتشارد هاس» فى تحليل لافت للمسارات المستقبلية للصراع فى غزة .

ففى يوم الجمعة الماضى (31/5/2024) طرح الرئيس الأمريكى جو بايدن «مبادرة» أو «خريطة طريق» أيا ما كانت التسمية فى أحد خطاباته الانتخابية، تضمنت مقترحات لتسوية الصراع فى غزة، ألمح إلى أنها، فى الأصل، مقترحات إسرائيلية، أو يمكن القول إنها، أى المقترحات «صنع فى إسرائيل». وبايدن بطرحه هذه المبادرة، بقدر ما كان يحاول تبييض وجهه وتحسين صورته الانتخابية أمام تزايد الرفض فى أوساط الناخبين المؤيدين للحزب الديمقراطى للسياسة الأمريكية المعادية للفلسطينيين والمطالبة بـ «الحرية لفلسطين»، لكن الأهم أنه كان يحاول التغطية على «قبح» السياسة الأمريكية وتسترها على جريمة «المحرقة» التى ارتكبتها إسرائيل يوم الأحد (26 مايو 2024) على خيام النازحين بمنطقة «تل السلطان» شمال غربى رفح، وراح ضحيتها 45 فلسطينياً بينهم أطفال ونساء أكلتهم النيران التى أشعلتها صواريخ الطائرات الإسرائيلية التى هى فى الأصل صواريخ أمريكية، مع العلم بأن هذه المنطقة كانت ضمن المناطق التى زعم جيش الاحتلال الإسرائيلى أنها «آمنة ويمكن النزوح إليها» ما يعنى أنها جريمة مدبرة ومتعمدة، وجاءت بمثابة تحد إسرائيلى ورفض شديد الصرامة بـ»اللغة التى لا تعرف إسرائيل سواها» لمذكرات التوقيف التى أصدرها المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية «كريم خان» ضد بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة ويوآف جالنت وزير الحرب، ولحكم محكمة العدل الدولية الصادر بعد أيام من حكم المحكمة الجنائية الدولية (24 مايو 2024) الذى يأمر إسرائيل بوقف هجومها على رفح.

الرفض الأمريكى لحكمى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لم يكن أقل سوءاً وسقوطاً فى معانيه من الرفض الإسرائيلى . فإذا كانت إسرائيل قد هددت قبل يوم واحد من صدور حكم محكمة العدل الدولية بأنه «لا توجد قوة على الأرض يمكنها أن تمنعنا من ملاحقة (حماس) بغزة»، فإن الرئيس الأمريكى جو بايدن نفسه قال فى نفس اليوم (23 مايو 2024) إن الولايات المتحدة «لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وأنه لا يمكن المقارنة بين إسرائيل وحركة (حماس)». وقبل ذلك بثلاثة أيام شدد بايدن (20 مايو 2024) على أن الهجوم الذى تشنه إسرائيل على قطاع غزة «ليس إبادة جماعية» وجدد إدانته طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية. وبعد ارتكاب إسرائيل جريمة «المحرقة» فى قطاع غزة بيومين قال البيت الأبيض (28 مايو 2024) إن الرئيس الأمريكى جو بايدن «لا يعتزم تغيير سياسته تجاه إسرائيل بعد سقوط (قتلى) بضربة إسرائيلية لمخيم للنازحين فى رفح، لكنه لا يغض الطرف عن معاناة المدنيين الفلسطينيين».

وبادر المتحدث باسم مجلس الأمن القومى جون كيربى بالقول: «لا نعتقد أن أفعال إسرائيل فى رفح ترقى إلى عملية واسعة النطاق من شأنها أن تتخطى الخطوط الحمراء، التى حددها بايدن». وزاد فى مؤتمر صحفى فى البيت الأبيض «لا تغيير فى السياسة نتيجة لهذه الضربة». ولم يكن موقف الكونجرس أقل «بشاعة» من موقف الإدارة حيث هاجم السيناتور «ليندسى جراهام» رئيس إحدى اللجان المهمة فى مجلس الشيوخ محكمة العدل الدولية، وقال على منصة «إكس»: «كان علينا منذ زمن طويل الوقوف فى وجه ما يسمى منظمات العدالة الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة. أن انحيازهم المناهض لإسرائيل كبير للغاية».

وإذا كان هذا هو الموقف الأمريكى الرسمى المناهض لحكمى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية فإن ما هو أسوأ من كل ذلك هو رفض الولايات المتحدة أى محاولة لتفعيل حكم محكمة العدل الدولية القاضى بوقف الحرب فى غزة عبر إصدار قرار بذلك من مجلس الأمن، ما يؤكد أن الولايات المتحدة ليست مع وقف الحرب فى غزة وأنها مائة فى المائة مع أهداف إسرائيل كلها.

من هنا بالتحديد يمكن فهم مبادرة بايدن المعلنة يوم الجمعة الماضى، والوصول إلى يقين بأنها «ليست إلا محاولة لوقف تداعى الموقف الدولى ضد إسرائيل والولايات المتحدة فى مجلس الأمن وخارجه لتفعيل حكم محكمة العدل الدولية، وإجهاض صدور أى قرار يوقف المشروع الإسرائيلى فى غزة.

كارثة السياسة الأمريكية والرئيس بايدن أن إسرائيل رفضت مبادرته ، وأن الكونجرس الأمريكى تحداه ووجه دعوة لبنيامين نيتانياهو لإلقاء خطاب أمامه فى تحدٍ سافر للرئيس الأمريكى وإفشال محاولاته لتجميل سياساته، فقد وضع نيتانياهو الرئيس الأمريكى فى موقف شديد الحرج على جميع المستويات إقليميا ودولياً وأمريكياً برفضه مبادرة الرئيس الأمريكى وتجاوزه له باتخاذ القرار بالذهاب إلى الكونجرس وإلقاء خطاب أمامه بهدف الحصول على الدعم الذى يأمله لمشروعه السياسى فى غزة، خاصة وعوده للإسرائيليين بتحقيق «النصر» الذى يعنى بالنسبة له ثلاثة أهداف محددة: استرداد كل الرهائن والقضاء على حركة «حماس» عسكريا وحكوميا وفرض واقع أمنى إسرائيلى جديد على قطاع غزة يحول دون تحوله مستقبلا إلى بؤرة تهديد للأمن الإسرائيلى على نحو ما حدث فى «طوفان الأقصى» وهذا يعنى د. محمد السعيد إدريس
طباعة المقال
يبدو فعلاً أن السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط «منحوسة» على حد وصف رئيس المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية «ريتشارد هاس» فى تحليل لافت للمسارات المستقبلية للصراع فى غزة .

ففى يوم الجمعة الماضى (31/5/2024) طرح الرئيس الأمريكى جو بايدن «مبادرة» أو «خريطة طريق» أيا ما كانت التسمية فى أحد خطاباته الانتخابية، تضمنت مقترحات لتسوية الصراع فى غزة، ألمح إلى أنها، فى الأصل، مقترحات إسرائيلية، أو يمكن القول إنها، أى المقترحات «صنع فى إسرائيل». وبايدن بطرحه هذه المبادرة، بقدر ما كان يحاول تبييض وجهه وتحسين صورته الانتخابية أمام تزايد الرفض فى أوساط الناخبين المؤيدين للحزب الديمقراطى للسياسة الأمريكية المعادية للفلسطينيين والمطالبة بـ «الحرية لفلسطين»، لكن الأهم أنه كان يحاول التغطية على «قبح» السياسة الأمريكية وتسترها على جريمة «المحرقة» التى ارتكبتها إسرائيل يوم الأحد (26 مايو 2024) على خيام النازحين بمنطقة «تل السلطان» شمال غربى رفح، وراح ضحيتها 45 فلسطينياً بينهم أطفال ونساء أكلتهم النيران التى أشعلتها صواريخ الطائرات الإسرائيلية التى هى فى الأصل صواريخ أمريكية، مع العلم بأن هذه المنطقة كانت ضمن المناطق التى زعم جيش الاحتلال الإسرائيلى أنها «آمنة ويمكن النزوح إليها» ما يعنى أنها جريمة مدبرة ومتعمدة، وجاءت بمثابة تحد إسرائيلى ورفض شديد الصرامة بـ»اللغة التى لا تعرف إسرائيل سواها» لمذكرات التوقيف التى أصدرها المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية «كريم خان» ضد بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة ويوآف جالنت وزير الحرب، ولحكم محكمة العدل الدولية الصادر بعد أيام من حكم المحكمة الجنائية الدولية (24 مايو 2024) الذى يأمر إسرائيل بوقف هجومها على رفح.

الرفض الأمريكى لحكمى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لم يكن أقل سوءاً وسقوطاً فى معانيه من الرفض الإسرائيلى . فإذا كانت إسرائيل قد هددت قبل يوم واحد من صدور حكم محكمة العدل الدولية بأنه «لا توجد قوة على الأرض يمكنها أن تمنعنا من ملاحقة (حماس) بغزة»، فإن الرئيس الأمريكى جو بايدن نفسه قال فى نفس اليوم (23 مايو 2024) إن الولايات المتحدة «لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وأنه لا يمكن المقارنة بين إسرائيل وحركة (حماس)». وقبل ذلك بثلاثة أيام شدد بايدن (20 مايو 2024) على أن الهجوم الذى تشنه إسرائيل على قطاع غزة «ليس إبادة جماعية» وجدد إدانته طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية. وبعد ارتكاب إسرائيل جريمة «المحرقة» فى قطاع غزة بيومين قال البيت الأبيض (28 مايو 2024) إن الرئيس الأمريكى جو بايدن «لا يعتزم تغيير سياسته تجاه إسرائيل بعد سقوط (قتلى) بضربة إسرائيلية لمخيم للنازحين فى رفح، لكنه لا يغض الطرف عن معاناة المدنيين الفلسطينيين».

وبادر المتحدث باسم مجلس الأمن القومى جون كيربى بالقول: «لا نعتقد أن أفعال إسرائيل فى رفح ترقى إلى عملية واسعة النطاق من شأنها أن تتخطى الخطوط الحمراء، التى حددها بايدن». وزاد فى مؤتمر صحفى فى البيت الأبيض «لا تغيير فى السياسة نتيجة لهذه الضربة». ولم يكن موقف الكونجرس أقل «بشاعة» من موقف الإدارة حيث هاجم السيناتور «ليندسى جراهام» رئيس إحدى اللجان المهمة فى مجلس الشيوخ محكمة العدل الدولية، وقال على منصة «إكس»: «كان علينا منذ زمن طويل الوقوف فى وجه ما يسمى منظمات العدالة الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة. أن انحيازهم المناهض لإسرائيل كبير للغاية».

وإذا كان هذا هو الموقف الأمريكى الرسمى المناهض لحكمى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية فإن ما هو أسوأ من كل ذلك هو رفض الولايات المتحدة أى محاولة لتفعيل حكم محكمة العدل الدولية القاضى بوقف الحرب فى غزة عبر إصدار قرار بذلك من مجلس الأمن، ما يؤكد أن الولايات المتحدة ليست مع وقف الحرب فى غزة وأنها مائة فى المائة مع أهداف إسرائيل كلها.

من هنا بالتحديد يمكن فهم مبادرة بايدن المعلنة يوم الجمعة الماضى، والوصول إلى يقين بأنها «ليست إلا محاولة لوقف تداعى الموقف الدولى ضد إسرائيل والولايات المتحدة فى مجلس الأمن وخارجه لتفعيل حكم محكمة العدل الدولية، وإجهاض صدور أى قرار يوقف المشروع الإسرائيلى فى غزة.

كارثة السياسة الأمريكية والرئيس بايدن أن إسرائيل رفضت مبادرته ، وأن الكونجرس الأمريكى تحداه ووجه دعوة لبنيامين نيتانياهو لإلقاء خطاب أمامه فى تحدٍ سافر للرئيس الأمريكى وإفشال محاولاته لتجميل سياساته، فقد وضع نيتانياهو الرئيس الأمريكى فى موقف شديد الحرج على جميع المستويات إقليميا ودولياً وأمريكياً برفضه مبادرة الرئيس الأمريكى وتجاوزه له باتخاذ القرار بالذهاب إلى الكونجرس وإلقاء خطاب أمامه بهدف الحصول على الدعم الذى يأمله لمشروعه السياسى فى غزة، خاصة وعوده للإسرائيليين بتحقيق «النصر» الذى يعنى بالنسبة له ثلاثة أهداف محددة: استرداد كل الرهائن والقضاء على حركة «حماس» عسكريا وحكوميا وفرض واقع أمنى إسرائيلى جديد على قطاع غزة يحول دون تحوله مستقبلا إلى بؤرة تهديد للأمن الإسرائيلى على نحو ما حدث فى «طوفان الأقصى» وهذا يعنى بالنسبة لنيتانياهو الرفض القاطع لأى محاولة أو مبادرة لوقف الحرب فى غزة قبل تحقيق هذه الأهداف أياً كان مصدرها حتى لو كان هذا المصدر هو الحليف الأمريكي.

ففى يوم السبت الماضى 1 يونيو 2024 أى بعد يوم واحد فقط من إعلان بايدن مبادرته أكد نيتانياهو أن إسرائيل «لن توافق على وقف إطلاق النار فى غزة طالما أن حماس لا تزال تحتفظ بالحكم والسلطة العسكرية». تطورات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط ليست فقط «منحوسة»، بل تتحول تدريجياً إلى سياسة منبوذة»

بالنسبة لنيتانياهو الرفض القاطع لأى محاولة أو مبادرة لوقف الحرب فى غزة قبل تحقيق هذه الأهداف أياً كان مصدرها حتى لو كان هذا المصدر هو الحليف الأمريكي.

ففى يوم السبت الماضى 1 يونيو 2024 أى بعد يوم واحد فقط من إعلان بايدن مبادرته أكد نيتانياهو أن إسرائيل «لن توافق على وقف إطلاق النار فى غزة طالما أن حماس لا تزال تحتفظ بالحكم والسلطة العسكرية». تطورات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط ليست فقط «منحوسة»، بل تتحول تدريجياً إلى سياسة منبوذة»

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …