عندما تؤدي فضائح ترامب إلى زيادة شعبيته!

 

   سليمان مراد

في مقالة سابقة (“القضاء يُحدّد هويّة رئيس أمريكا المقبل”)، تطرقت إلى تأثير القضاء على مسار الإنتخابات الرئاسيّة في أمريكا من خلال قضايا مُثارة مرتبطة بالمرشح الجمهوري دونالد ترامب. في هذه المقالة، أتطرّق إلى حالات سابقة مُشابهة تدخل فيها القضاء الأميركي للتبرئة بينما نجده الآن منخرطاً كلّيّاً في معركة الإنتخابات الرئاسيّة ضد ترامب!

مع قرار هيئة المحلّفين (يوم 30 أيّار/مايو الماضي) بإدانة الرئيس السابق دونالد ترامب بجرم شراء صمت الممثّلة الإباحيّة ستورمي دانيلز (Stormy Daniels)، يتبدى لنا، أقله في الظاهر، أنّ العدالة في أمريكا تمكّنت أخيراً منه (وسينطق القاضي بالحكم في شهر تمّوز/يوليو المقبل). وقد سارع الديموقراطيّون إلى الإشادة بهذا الإنجاز التاريخي، معلنين أنّ لا أحد فوق القانون، بينما انهال الجمهوريّون بغضبهم على هيئة المحلّفين والمدّعي العام في نيويورك وقاضي الدعوى لتسخيرهم القضاء لأهداف سياسيّة!

في الحالتين، نرى بوضوح تأثير القضاء على مسار الإنتخابات. من جهة، يبدو وكأنّ البعض (الديموقراطيّون وبعض أركان ما تُسمى “الدولة العميقة”) يريد من القضاء أن “يمنع” ترامب من الإستمرار بالترشحّ. هؤلاء باتوا على قناعة أنّ منعه من أن يصبح رئيساً لا يمكن تحقيقه عبر صناديق الإقتراع. إذاً يجب على القضاء أن يقوم بذلك قبل أن نصل إلى وقت التصويت في شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. في المقلب الآخر، استمرار القضاء في محاكمته (وهو يواجه قضايا عدة في ولاية نيويورك وغيرها) لم يُضعف حجم التأييد لترامب عند قاعدة الحزب الجمهوري ومعظم السياسيّين الجمهوريّين. وهذا يعني أنّ مشاكل ترامب القضائيّة جعلته أكثر شعبيّةً، وهذا “الفضل” يُمكن أن ننسبه إلى تدخّل القضاء لكن من باب “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”: القضاء يُريد إنهاء حظوظه في الرئاسة، لكن فعليّاً ملاحقته لترامب تزيد من حظوظه الرئاسية!

لنعد قليلاً إلى الوراء. عندما واجه الرئيس الأسبق وليام (بيل) كلينتون إتّهامات بالإغتصاب وإقامة علاقات جنسية مع بعض الموظّفات عنده وشراء صمتهم (كما حدث مع ترامب في ما بعد)، رفض القضاء التدخّل، وانتخب كلينتون رئيساً لدورتين. وعندما تبيّن في سنة 1994 – أي قبل الإنتخابات الرئاسيّة التي أعيد انتخابه فيها لدورة ثانية – أنّه ارتكب جريمة بشهادته زوراً (perjury) أثناء جلسة أوّليّة تتعلّق بدعوى أقامتها سكريتيرته السابقة بولا جونز (Paula Jones) ضدّه بجرم محاولة الإعتداء عليها جنسيّاً في سنة 1991، عندما كان حاكماً لولاية أركنساس، لم يتدخّل القضاء لمحاكمته.

كان القضاء وما يزال أداة سياسيّة، تُستخدم أو تُحجب لأهداف الدولة العميقة في أمريكا. وينطبق على واقعة ترامب القول الإنكليزي الشهير “إنتقل الحذاء إلى الرجل الأخرى” (the shoe is on the other foot)، أي كل فريق يُغيّر مبادئه وأخلاقه وحتّى مواقفه من القضاء وفقاً لما إذا كان “المتّهم” منه أو ضدّه

شهادة الزور تعني أنّ كلينتون كذّب أمام قاضي التحقيق بشأن إقامة علاقة جنسيّة في البيت الأبيض مع مونيكا لوينسكي (Monica Lewinsky)، وشهادة الزور عقابها وفقاً للقانون الفدرالي الحبس لمدّة أقصاها خمس سنوات. محاولة الجمهوريّين في الكونغرس عزله باءت بالفشل وأسقطها الديموقراطيّون في مجلس الشيوخ. ولم يكتفِ الديموقراطيّون بذلك، بل هرع معظم قادة الحزب ووجوهه الشعبيّة للدفاع عن كلينتون، تماماً كما يحصل حالياً مع الجمهوريّين بدفاعهم المستميت عن ترامب. وقتذاك، عفا الشعب الأمريكي الأبيّ عن بيل، وقلب الصفحة.. وهو الآن من أكثر الرؤساء السابقين شعبيّةً. نعم، فضائح كلينتون زادته شعبيّةً وبعد خروجه من البيت الأبيض، انهمرت عليه العروض من الجامعات والشركات ليُلقي فيها محاضرات وخطابات ويُقدم النصائح والدروس في الأخلاق والسياسة! أكثر من ذلك، بقي نفوذ كلينتون وزوجته هيلاري قوياً حتّى هزيمة الأخيرة أمام ترامب في سباق الرئاسة في سنة 2016.

ومن أبرز المدافعين عن بيل كلينتون كانت أيقونة الحركة النسويّة (feminism) غلوريا ستاينم (Gloria Steinem)، وهو ما أثار استغراب واستهجان الكثيرين من المؤيدين لحقوق المرأة كون ستاينم هي من رموز الحركة النسويّة المتطرّفة وتتميز بكرهها للرجل كحالة إجتماعيّة. ولا يمكن أن ننسى دفاع هيلاري كلينتون المستميت عن زوجها مع أنّها كانت تعلم بالحقيقة، ولم يكن لذلك أي تأثير سلبي على حجم نفوذها أو شعبيّتها.

وقبل كلينتون، يُمكن أن نتكلّم عن عائلة كينيدي وجرائمها وفضائحها الكثيرة، والتي لم يلاحقها القضاء بتاتاً. فالرئيس جون كينيدي كان معروفاً بعلاقاته الجنسيّة العديدة (في البيت الأبيض وخارجه)، لكن الصحافة والقضاء بقيا بعيداً عن هذا الموضوع. وعندما حصل لأخيه إدوارد – والمعروف بـ”تد” (Ted)، والذي كان سيناتوراً عن ولاية ماساشوستس من سنة 1962 إلى 2009 – حادث أودى بحياة إمرأة كانت برفقته في سنة 1969، كان العقاب الوحيد له حجز رخصته ومنعه من قيادة السيّارات لمدّة 16 شهراً. حتماً كانت القضّية تتطلّب عقوبة أكبر بكثير ولكنه حصل على عقوبة مخففة بفضل نفوذ عائلته الكبير. وفي حيثيّات تلك الحادثة، أنّه ترك حفلاً كان يحضره في جزيرة مارثاز فينيارد (Martha’s Vineyard) قرابة منتصف الليل وذهب برفقة إمرأة. وبسبب السكر والسرعة المفرطة، انقلبت السيّارة وسقطت في بحيرة، وتمكّن كينيدي من الخروج منها بينما بقيت المرأة عالقة فيها وماتت. لكنّه لم يبلّغ السلطات بالحادث، بل ذهب إلى بيته وفي صباح اليوم التالي أتت الشرطة لتتحدث معه عن الحادث (كانت الشرطة قد اكتشفت أمر السيارة وانتشلت جثّة الضحيّة قبل ذلك بساعات قليلة). ليس فقط أنّ كينيدي لم يُحاكم بتاتاً على جريمة القتل هذه (القيادة بحالة السكر الشديد ومسؤوليّته عن القتل والهروب من مكان الجريمة، إلخ..)، بل لم يفقد شيئاً من شعبيّته، لا في ولاية ماساشوسيتس ولا بين الديموقراطيّين. بل على العكس، زاد الحادث من شعبيّو تيد كينيدي في أمريكا وهو ما شجّعه على الترشّح أكثر من مرّة للسباق الرئاسي.

لنعد إلى ترامب؛ ليس بغريب أن تحصل محاكمته على عجلة في مدينة نيويورك لأنّ أجهزة القضاء فيها ممسوكة من الديموقراطيّين، كما أن المدّعين العامّين هم أيضاً ديموقراطيّين ولا يخافون على مستقبل وظائفهم كما هو الحال في ولايات أخرى. والأكيد أنّ المراهنين على إيقاف مسار ترامب إلى الرئاسة عبر محاكمته في نيويورك يعتقدون أنّ بإمكانهم المخاطرة بالقضاء من دون مضاعفات كبيرة (بغضّ النظر عمّا إذا كان صحيحاً أنّ محاكمة ترامب ليس لها تأثير على سمعة القضاء وهالته، في نيويورك وخارجها).

من دون شكّ، هناك استغراب لحجم دفاع الجمهوريين المستميت عن ترامب وازدياد شعبيّته بينهم برغم مشاكله القضائيّة الكثيرة، خصوصاً بين قيادات الحزب والإعلاميّين البارزين المحسوبين عليه. هؤلاء لا ينكرون جرائمه، لكنّهم يصرّون على أنّ القضاء لا يجب أن يُحاكمه عليها، إمّا لأنّه مرشّحهم للرئاسة أو بحجة أنّ القضاء يتدخّل في السياسة أو لأنّه رئيس سابق ويجب أن تكون له حصانة تحميه من الملاحقة.

الفرق الكبير بين الأمس واليوم هو أنّ الأمور في الماضي، كانت تُلملم سريعاً ويكون الاعلام شريكاً في التضخيم أو التعمية. أمّا الآن، فالإعلام له دوره في “الدولة العميقة” التي ترى في ترامب خطراً على أمريكا يجب تحييده. ويمكن أن نضيف أنّ وسائل التواصل الإجتماعي لا تساعد على دفن مشاكل ترامب، بغضّ النظر عمّا إذا أراد الإعلام ذلك أم لا. ويمكن أن نضيف أنّه لو كان لوسائل التواصل الإجتماعي هذه القوّة والإنتشار في ستّينيات وتسعينيات القرن المنصرم، لما نجا آل كينيدي أو آل كلينتون من جرائمهم الأخلاقيّة وغير الأخلاقيّة.

في الخلاصة، لا جديد تحت الشمس، إلاّ أنّ الوسائل تختلف. كان القضاء وما يزال أداة سياسيّة، تُستخدم أو تُحجب لأهداف الدولة العميقة في أمريكا. وينطبق على واقعة ترامب القول الإنكليزي الشهير “إنتقل الحذاء إلى الرجل الأخرى” (the shoe is on the other foot)، أي كل فريق يُغيّر مبادئه وأخلاقه وحتّى مواقفه من القضاء وفقاً لما إذا كان “المتّهم” منه أو ضدّه. فالجمهوريّون يطالبون بمحاكمة الرئيس بايدن وابنه بجرائم ماليّة بينما يدافعون عن ترامب ويطالبون بمنع محاكمته. والديموقراطيّون يريدون إدانة ترمب بينما يرفضون فكرة المس قضائيّاً ببايدن لشبهات تتعلّق بأموال حصل عليها من أوكرانيا ومن الصين عندما كان نائباً للرئيس أوباما.

أما نحن الذين لا ناقة لنا ولا جمل في كلّ ما يحصل، فنقول: “بطّيخ يكسّر بعضو”!

(*) راجع مقالة الكاتب بعنوان: القضاء يُحدّد هويّة رئيس أمريكا المقبل

شاهد أيضاً

القواتُ المسلحةُ اليمنيةُ بالاشتراكِ معَ المقاومةِ الإسلاميةِ العراقيةِ نفذتا عمليةً عسكريةً مشتركةً

🛑 *بيانٌ صادرٌ عنِ القواتِ المسلحةِ اليمنية* بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم قال تعالى: { إِنَّ …