قراءة في كتاب “سورية: درب الآلام نحو الحريّة”

بقلم حسين إبراهيم 

حاول المفكّر والسّياسيّ الفلسطينيّ عزمي بشارة، في كتابه “سورية: درب الآلام نحو الحرية”، أن يتتبّع مسار الثّورة السّوريّة منذ نشأتها في آذار 2011، حتّى تاريخ الانتهاء من الكتاب، وهو آذار 2013. وقد خصّص الصّفحات الأولى، للحديث عن أحوال سورية في العقد الذي سبق الثّوررة، ليؤكّد أنّ تلك الأحوال لم تكن مثاليّة.

فبعد أن ورث بشّار الأسد منصب رئاسة الجمهوريّة عن أبيه سنة 2000، وعدَ شعبَه بإصلاحات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، تُموّه حدث التوريث، وتمنحه شرعيّة مزيّفة. وقد استطاعت هذه الوعود أن تبني جسرًا هلاميًّا بين الرّئيس وشعبه، إلّا أنّ هذا الجسر سرعان ما تهاوى، فتهاوت معه ثقة الشّعب برئيسه، وقرّر الثّورة عليه.

وقبل أن يتوغّل الكاتب في الحديث عن الثّورة السّوريّة وحيثيّاتها، عرّج أوّلًا على الأسباب المباشرة وغير المباشرة لاشتعالها؛ فليس صحيحًا ما يتبادر إلى بعض الأذهان من أنّ الشّعب السّوريّ كان مدلّلًا مرفّهًا قبل الثّورة، وأنّه انتفض لمؤامرة خارجيّة، أو لحماس مفرط جرّه الرّبيع العربيّ. وإنّما ثمّة جملة من الأسباب التي زعزعت ثقة الشّعب برئيسة، وقد جمعها بشارة في نقاط واضحة، أبرزها:

– التحوّل من الاقتصاد المركزيّ إلى اقتصاد السّوق، ما أدّى إلى رفع الدّعم عن كثير من السّلع الأساسيّة أوّلًا، وإلى مفاقمة الهوّة الطّبقيّة تاليًا.

– استملاك الأراضي وغياب التّعويض العادل؛ إذ وضع النّظام يده على أراضٍ واسعة في بعض المناطق السّوريّة، اقتناها من مالكيها بأسعار بخسة، بهدف تنفيذ مشاريع عمرانيّة تدرّ عليه الملايين.

– إهمال الحكومة للقطاع الزّراعيّ، ما أدّى إلى انخفاض المحاصيل الزّراعيّة، وهجرة عدد كبير من المزارعين إلى محيط دمشق والتّوطّن في مخيّمات بدائيّة.

– عقْد اتّفاقيّات اقتصاديّة تصبّ في مصالح دول خارجيّة، ولا سيّما تلك الاتّفاقيات المتعلّقة بالتّبادل التّجاريّ والتّسهيلات الجمركيّة للبضائع، ما أدّى إلى إلحاق الضّرر بكثير من الصّناعات السّوريّة التقليديّة.

وما يمكن استنتاجه بشكل عام من هذه العوامل وغيرها، أنّ الشّعب السّوري راح يعاني من البطالة والفقر والنّهب والإهمال، في الوقت الذي كان ينتظر الإصلاحات المزعومة التي من شأنها أن تنتشله من أزماته السّابقة والحاضرة.

وعلى الرّغم من تبخّر الوعود الإصلاحيّة للرّئيس، ظلّ الشّعب صابرًا منتظرًا تلك الإصلاحات التي لن تأتي. ولكن إلى متى؟ بعد مرور عشر سنوات على حكم الأسد، وبعد اشتعال الثّورات في بلدان عربيّة مختلفة كمصر وتونس وليبيا، كان الوقت قد حان للنّهوض، للتمرّد على ذلك النّظام الكاذب، وتذكيره بالإصلاحات التي وعد شعبه بها قبل عقد من الزّمن. وما إن حاول الشّعب أن ينهض بهدوء ليذكّر الحاكم بما له وما عليه، حتّى كشّر ذلك الحاكم عن أنيابه، فكانت “درعا” الضّحيّة الأولى والشّرارة الأولى في الوقت نفسه.

فبعد اعتقال أطفال “درعا” وتعذيبهم بسبب شعارات جداريّة نُسبت إليهم، انتفضت المدينة، ثمّ تبعتها مدن أخرى؛ مثل “حمص” و”حماة” و”إدلب” و”دير الزور” ومدن الرّيف الدّمشقيّ وغيرها. وقد اتّسمت هذه الانتفاضات بطابعها السّلميّ المدنيّ. لكنّ النّظام كان خائفًا من أن يحلّ به ما حلّ بالنّظامين المصريّ والتّونسي، فلم يقف ساكنا، وإنّما انقضّ بمخالبه ورصاصه على المتظاهرين، مقترفًا مجازر مروّعة. وهكذا تحوّلت تهمة النّظام من التلكّؤ والإهمال إلى الاستبداد والإجرام، ما أدّى إلى تحوّل شعارات الشّعب من المطالبة بالإصلاحات، إلى المطالبة بإسقاط النّظام.

ويتحدّث بشارة عن استراتيجيّة النّظام السّوريّ، فيقول: “بدأ النّظام استراتيجيّته في التّعامل مع الثّورة بمحاولة دفع المحتجّين إلى حمل السّلاح من خلال تجنيد أفراد مأجورين (الشبّيحة) لافتعال المشكلات معهم ودفعهم إلى استخدام العنف حتّى يبرّر للقوى الأمنيّة قمعهم بطرائق وحشية”. وقد نجحت هذه الاستراتيجيّة؛ إذ إنّ الثوّار قد اضطرّوا فعلًا إلى حمل السّلاح. ففي أواخر عام 2011 وبداية عام 2012، كان عنف النّظام في التّعامل مع الاحتجاج السّلميّ قد أوصل القادة المحليّين للاحتجاجات وفئات واسعة من الشّعب السّوريّ، إلى الاقتناع بأنّ التّظاهرات السّلميّة لن تتمكّن من إسقاط النّظام.
وبعد أن تحوّل طابع الثّورة من السّمليّ إلى المسلّح، سعت قوّات الجيش والأمن إلى حسم المسألة عسكريًّا بغضّ النّظر عن نتائجها، فراحت تستخدم سلاح الجوّ لقصف الثوّار في المناطق السّوريّة المختلفة، ما أدّى إلى تدمير شامل لأرياف ومناطق مأهولة. وهذا ما يبيّن لنا أنّ النّظام السّوريّ لم يكن يتعامل مع شعبه وناسه، وإنّما مع عدوّ يستحقّ الإبادة فقط لأنّه قرّر معارضته. لا شيء يفسّر استراتيجيّة النّظام العسكريّة التّدميريّة إلّا الغضب على من تمرّد عليه من عبيد “المزرعة”، وضرورة معاقبتهم في المرحلة الأولى، وتدمير “المزرعة” إذا لم يتمكّن من السّيطرة عليها كاملة. فهي إمّا له، ملكه، أو لا تكون لأحد. وبذلك يكون النّظام قد طبّق شعار الشبّيحة بحذافيره: “الأسد أو نحرق البلد”.

إلّا أنّ النّظام، بعنفه اللانهائيّ، ووحشيّته كلّها، فشل في ردع الثوّار في بعض الأرياف والمدن التي استولوا عليها، فكان لا بدّ له عندئذ من اللّجوء إلى الخطّة الثّانية، أو السّيناريو الثاني كما يعبّر الباحث، وهو تصوير الصّراع بين الشّعب والنّظام على أنّه صراع طائفيّ. وقد يتساءل البعض عن الفائدة المرجوّة من تصويرٍ كهذا، وهنا يجيب بشارة في كتابه: “الثّورة على الاستبداد تنتهي بنهاية الاستبداد، أمّا الحروب الطّائفيّة والإثنيّة فليس فيها من النّاحية الأخلاقية حقّ يجب أن ينتصر، وباطل لا بدّ من أن يُدحر، وهي في العالم لا تنتهي إلّا بالانفصال عن كيانات مختلفة، أو بالتّسويات الطّائفيّة”. وهذا يعني أن يكون النّظام في أسوأ الحالات طرفًا في تسوية.

وقد أعرب النّظام عن هذه النيّة منذ خطاب الرّئيس الأوّل في 30 آذار 2011، حين كانت الثّورة في أبهى صورها المدنيّة، لا يشوبها أيّ نزوع طائفيّ. فقد وصف بشّار الأسد الثّورة في خطابه، بالفتنة الطّائفيّة. ولم يتوقّف النّظام عند هذا الحدّ، وإنّما عمد إلى أن يكون طرفًا فاعلًا في هذه “الفتنة”. فهو لم يكن المؤسّس التّاريخيّ لها فحسب؛ حين جعل المناصب القياديّة والرّأسماليّة حكرًا على الطّائفة العلويّة في مجتمع ذي أكثريّة سُنّيّة، وإنّما المشارك العلنيّ فيها أيضًا. ويظهر ذلك من خلال المجازر الطّائفيّة التي قام بها الجيش والشبّيحة في “كرم الزيتون”، و”التريمسة”، و”حي الشماس”، و”الذيابية”، و”البيضا” التي راح ضحيّتها عشرات الأطفال والنّساء.

ويميّز بشارة بين فريقين من المعارضة العسكريّة: الأوّل يتكوّن من الجّيش الحرّ؛ أي العناصر والضبّاط المنشقّين عن الجّيش السّوري، ومن مجموعات ذات طابع دينيّ، “تَسَلْفنَت ضمن تفكير براغماتي للتقرّب من المانحين، أو بسبب ظاهرة التّديّن خلال القتال”. أمّا الثّاني فيتكوّن من جماعات سلفيّة جهاديّة نشأت قبل الثّورة، ونشطت على هامش الحركة الاحتجاجيّة. وقد انضمّت هذه الجماعات إلى الثّورة لمناصرتها من منطلق عدائها المتأصّل للنّظام، وليس بسبب التزامها مطالب الثّورة وشعاراتها وأهدافها. وقد غدا العنف الحركيّ الجهاديّ الذي أقدم عليه الفريق الثّاني، من أبرز المخاطر التي تُهدّد الثّورة السّوريّة بحراكها السّلميّ والمسلّح.

هذا بالنّسبة إلى المعارضة العسكريّة، أمّا المعارضة السّياسيّة، فثمّة انقسامات كثيرة في صفوفها، وذلك لأسباب عدّة، أهمّها، بحسب ما يشير الكاتب، ذهاب جزء من المعارضة إلى الرّهان على تدخّل عسكريّ غربيّ لحسم الصّراع، وذهاب الجزء الآخر إلى الرّهان على إمكانيّة الحوار مع النّظام والاعتراف به بوصفه شريكًا في الحوار. وقد أثبتت الأيّام كما يقول بشارة، فشل هاتين الاستراتيجيّتين. ولعلّ الإنجاز الأهمّ الذي توصّلت إليه هذه المعارضة هو تأليف الائتلاف الوطنيّ الذي حدّ نسبيًّا من حالة التّشتّت والانقسام، والذي حاز على مقعد سورية في جامعة الدّول العربيّة.

أمّا بالنّسبة إلى المواقف الدّوليّة من هذه الثّورة، فيمكن القول إنّ النّظام السّوريّ قد حظي بحلفاء أقوياء ومثابرين كروسيا وإيران، في حين لم تحظَ الثّورة بمحور داعم أو حلفاء أقوياء منذ البداية، فقد ظهر بوضوح تردّد الولايات المتّحدة والدّول الأوروبيّة في دعم الثّورة ماديًّا وعسكريًّا. وحتى إسرائيل، ثمّة فريق فيها يتشبّث بالنّظام، لما يوفّره من ضمانة في الحفاظ على الجولان. وهذا ما يبدّد دعاية النّظام حول المؤامرة الدّوليّة التي تُحاك ضدّه.

أخيرًا، إنّ الثّورة السّوريّة، ثورة شعبٍ قرّر أن يواجه نظامه المستبدّ، وأن يشقّ طريقه نحو الحريّة مهما كلّفه الأمر. فهل سينال مراده يومًا؟

شاهد أيضاً

“ هواوي” وهجومها العكسي على العقوبات الأميركية

نعمت الحمد كانت شركة “هواوي” متفوقة على العالم في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، ما مهّد …