قبل فوات الأوان

شذرات من منعطفات الحيات (مجموعة قصص قصيرة ومقالات تزيح الستار عن الكثير من خبايا النفوس

بقلم الأديب أحمد فقيه

وصل سامي إلى شقته في العجوزة حوالي الرابعة عصرًا وهو منهك القوى بعد يوم طويل من الجهد والبحث والتنقل من قسم إلى قسم في كلية العلوم بجامعة القاهرة. أستلقى على سريره لبعض الوقت ليأخذ قسطًا من الراحة. وبعد أقل من ساعة، أيقظه زميله حمزة الذي يقيم معه في الشقة ليسمعه خبرًا تبثه الإذاعات.

فتح سامي عينه ونهض شبه مذعور وهو بأشد الحاجة للراحة والنوم.

  • ما الخبر.
  • إسمع ماذا تقول الأخبار في لبنان.

أصغى سامي إلى الراديو، وإذ به يسمع الخبر التالي:

“أعلن المسؤلون في لبنان عن إفلاس بنك أنترا في بيروت، وأن قوات الأمن قد حضرت وأقفلت أبوابه وختمتها بالشمع الأحمر.”

كان للخبر وقع الصاعقة على سامي، وطار النوم من عينيه ولم يعد يدري ماذا يفعل؟!! لقد تراءى له في حينها أنه معلق في الهواء بين السماء والأرض، لا حول له ولا قوة. لقد أصبح الآن في دوامة..

لم يمضِ على دخوله الجامعة أربعة أشهر، وكان قد جاهد جهادًا مضنيًا وعسيرًا حتى أُتيحت له هذه الفرصة.

كان سامي قد أنهى دراسته الإبتدائية في اوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وبعدها مباشرة ترك قريته المحاذية لفلسطين في جنوب لبنان وأتجه إلى بيروت لعله يجد عملًا يعينه ويعين أهله في التغلب على متطلبات الحياة.

تمكن بعد جهد من العمل في إحدى المطابع في بيروت. وبعد أن أستقر في عمله بعض الشيء، بدأ يفكر بمواصلة دراسته ليلًا. وفعلًا تمكن من ذلك، وبعد بضعة سنوات استطاع الحصول على الشهادة المتوسطة (البريفيه.

كان الحمل ثقيلًا على سامي، وبالكاد كان مدخوله يكفيه ويكفي والديه. لذلك سعى إلى الهجرة إلى الكويت، ونفذ ما أراد.

كانت الكويت آنذاك إمارة فتية ناهضة، تعمل جاهدة لتنفض عنها مخلفات الماضي لترتدي حلة جديدة أساسها التطور والحداثة في مختلف أوجه الحياة.

عايش سامي هذه النهضة وشارك فيها وتفاعل معها، وعمل ليلًا ونهارًا إلى أن أستطاع الوقوف على رجليه بقوة وعزم. تزوج وأنجب ولدين، وكان سعيدًا جدًا بحياته.

أفتتحت الدولة الكويتية في تلك الفترة معاهد ليلية لمن لم تتح له الظروف لإكمال تعليمه ويريد متابعة دراسته الثانوية. أستغل سامي هذه الفرصة، وألتحق بواحد من تلك المعاهد. كان يعمل في النهار ويدرس في الليل. وبعد مضي أربع سنوات نال شهادة الثانوية العامة.

شَدّه طموحه العلمي إلى متابعة دراسته الجامعية معتمدًا على ما استطاع إدخاره طوال تلك الفترة. وبعد أن قُبلَ في جامعة القاهرة – كلية العلوم (وهذا كان حلمه)، استقال من عمله في الكويت وعاد بعائلته إلى لبنان، وقد وضع مدّخراته في بنك أنترا – بيروت، على أمل أن يأخذ منها كل سنة مصروفه ومصروف عائلته.

والآن، وبعد أن سمع الخبر المشؤوم، شعر أن كل آماله وأحلامه قد تحطمت، وأن كل جهوده خلال السنوات الماضية قد تبددت.

بقي لبضعة أيام تائهًا مشوشًا لا يدري ماذا يفعل، ولا يعرف بما يفكر أولًا، وماذا يجب أن يفعل – أيحصر تفكيره في نفسه وظروف دراسته وإلى ما ستؤول إليه، أم يفكر بأسرته وأولاده؟!!.. كيف سيؤمن لهم متطلبات عيشهم وبقائهم. ومما زاد في الطين بلة، أنه قد أستقال من عمله في الكويت، ولم يعد لديه من عمل يدر عليه أي دخل. أما أخبار البنك وما آل إليه فقد اصبحت من مخلفات الماضي. ولم يرد ما يبعث على الأمل.

حاول عدة مرات حضور بعض المحاضرات في الجامعة. فقط لأشغال نفسه وابعادها عن التفكير بما يتخبط فيه. فلم يفلح كل ذلك، ولم يجد ما يخفف عنه إطلاقًا. أما النوم فقد جافاه كلية، وحلّت محله الوساوس والتخيلات، لدرجة أنه أصبح يشعر بالرعب كلما جاء الليل وحلَّ وقت النوم.

وأخيرًا، لم يعد يطيق هذا الوضع، فقرر التخلص مما هو فيه..

لقد عزم على الإنتحار!..

ذهب إلى ضفة من ضفاف النيل القريبة من منطقة العجوزة،  عازمًا على إلقاء نفسه في النهر. استند إلى شجرة من أشجار الكينا المعمرة، وأخذ يُحدق في صفحة الماء الجاري، ويفكر..

استعرض في تلك اللحظة كل ما جرى معه في حياته إلى أن وصل لما هو فيه الآن. فقال في ذاته: “لنفترض أن هناك شخصًا ثريًا لا حدود لممتلكاته وحصل له حادث ما ومات. ألا يكون بذلك قد خسر كل ما يملك وخسر نفسه أيضًا؟.. ولكن أنا، وإن كنت قد خسرت كل ما بنيته حتى الآن، إلا أنني لا زلت أحتفظ بنفسي، ويمكنني أن أبدأ من جديد، وإن كان هناك صعوبات. ولكن شيئًا أفضل من لا شيء. وعلاوة على ذلك، فأنا لست وحدي، ونفسي ليست ملكي لوحدي، فهناك أسرتي وأولادي الذين سيصبحون بموتي، بلا عائل، ولكن إذا بقيت حيًا، استطيع أن أكون عونًا لهم.

وهنا، في هذه اللحظة، تبدلت نظرته للحياة، فزالت عن عينيه تلك الغشاوة السوداء وبدأ ينظر إلى الغد بتفاؤل وإبتهاج، لقد أحس بأنه قد أنتشل من الموت، وهذا بحد ذاته، في رأيه مكسب.

وهكذا، فقد عزم على نسيان الماضي، والبدء من جديد.

شاهد أيضاً

المسلحون السوريون إلى النيجر..

أحمد رفعت يوسف  تحدثنا في تقارير سابقة بأن المسلحين السوريين المتورطين بعمليات ارهابية والذين سيتعذر …