رغما عنها… ستتنحّى الولايات المتحدة عن قيادة العالم!

د. عدنان منصور*

كم تغيّر العالم منذ ثلاثين سنة وحتى اليوم! مع بداية التسعينات من القرن الماضي، تفككت الامبراطورية السوفياتية، وانهار معها المعسكر الشيوعي، وأفل حلفه العسكري، حلف وارسو، ليفسح المجال أمام الدولة العظمى الولايات المتحدة لتتفرّد بالقرار العالمي، وتعبث بالدول وحقوق الشعوب، وتطغى بعنجهيّتها، وتقبض بكلّ قوة على القرارات الدولية، وتمارس ضغوطها، على الدول التي لا تسير في ركابها بمختلف الوسائل، دون منافس لها او رادع، وإنْ أدّى الأمر بها الى استخدام القوة العسكرية، والحصار، والعقوبات الاقتصادية الجائرة، واللجوء الى سياسات التهويل، والقمع، والإرهاب، والتجويع، دون أن تتردّد بالإطاحة بالأنظمة الوطنية للدول الرافضة لسياستها، والعمل عند الضرورة على تصفية حكامها.
ليست روسيا عام 2023 كما كانت عليه مع نهاية الاتحاد السوفياتي عام 1991. وليست الصين والهند والبرازيل، وإيران، والسعودية كما كانت عليه أيضاً عام 1990.
بعد تفكك المنظومة الشيوعية خلت الساحة الدولية للولايات المتحدة كي تفعل فعلها. إذ أنّ نشوة انتصارها على المنظومة الشيوعية وهي ترى تفككها وانهيارها أمام المعسكر الرأسمالي الحر، رفع من منسوب تسلطها وعنجهيتها، ما فتح شهيّتها على العالم كله، بعد أن أضحى الميدان الدولي ساحة رحبة لها، وأصبحت اللاعب الوحيد في ساحاته، دون منافس لها.
هذا الواقع رأت فيه واشنطن أن لا أحد في العالم يستطيع أن يجاريها أو ينافسها عليه.
فالعدو وراء الستار الحديدي أفل نجمه، ولم يبق على الساحة العالمية إلا الولايات المتحدة بعد أن فكّ عالم ما بعد عام 1991 قيودها، وجعلها لأول مرة طليقة اليدين، غير معرّضة لمواجهة أو ضغوط، او حرب باردة.
لأول مرة في التاريخ يشهد العالم إمساك وتحكم دولة عظمى بزمام الأمور في العالم، تحرّكه وتوجّهه وفق مصالحها السياسية والإقتصادية والمالية، والعسكرية، والاستراتيجية، غير عابئة بمصالح الدول وردود فعلها، طالما أنه كان من المبكر في ذلك الوقت، الحديث عن قوة عالمية ثانية او ثالثة كالصين وروسيا والهند واليابان وغيرها، لتطرح نفسها على الساحة الدولية بكلّ قوة لمواجهة الأحادية القطبية الأميركية، وتحقيق التوازن الدولي.
الرئيس جورج بوش في وثيقته للكونغرس الأميركي في شهر كانون الثاني عام 1992، المتعلقة باستراتيجية الأمن القومي الأميركي، حدّد االأطر العامة للدور الأميركي الفاعل في العالم. إذ يشير فيها الى انّ أميركا ستبقى الدولة الوحيدة ذات القوة الحقيقية الشاملة، والنفوذ الكبير بمختلف الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية… وأنّ الولايات المتحدة التي تتفرّد بقيادة العالم، تجعلها الوحيدة على «دعم الأمن والسلم الجماعي فيه!»
ها هو الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون يدوّن في كتابه: «انتهزوا الفرصة»، أنّ زعامة أميركا للعالم لن يكون هناك عنها بديل طيلة العقود المقبلة… وإذا ما انحدر وضعها ومكانتها كقوة عظمى وحيدة، فإنّ هذا سينتج عن الاختيار وليس بالضرورة»… أنّ فترة ما بين عامي 1985 و1989 كانت فترة التحوّل الكبير في النظام العالمي الجديد. ففي شهر كانون الأول 1989، التقى الزعيمان السوفياتي ميخائيل غورباتشوف والأميركي جورج بوش (الأب)، في قمة كانت علامة فارقة تختتم الزمن الذي كان يُعرف فيه العالم بثنائي القطب. فالقمة أقرّت لأول مرة بدور ريادي أحادي الجانب للولايات المتحدة، بعد الذي جرى ويجري من تحوّلات سياسية قلبت المقاييس والتوقعات، حيث جعلت الاتحاد السوفياتي في زمن قياسي لم يشهد العالم مثيلاً له، أن يأفل نجمه الأحمر، ويتفكّك عن بعضه البعض، ليغيب بهالته الكبيرة عن الساحة العالمية، ويتراجع من أمام أميركا، ليجعل منها القوة العظمى الوحيدة ذات المسؤولية الدولية.
لم تدم الهيمنة الأميركية على العالم وتفرّدها بالقرار الدولي طويلاً كما تصوّر بوش ونيكسون وبرزينسكي. إذ استطاعت روسيا أن تمسك بزمام الأمور من جديد، بعد أن نهضت وانطلقت مجدداً في تعزيز تنميتها، وتطوّرها، وقدراتها في مختلف المجالات. وهي اليوم في عام 2023، ليست كما كانت عليه عند نهاية الاتحاد السوفياتي عام 1991.
أنّ وجود أقطاب وقوى عالمية صاعدة ومؤثرة، هي اليوم في مواجهة الهيمنة الأميركية، سياسياً واقتصادياً ومالياً وتجارياً، وعلميًا وتكنولوجياً، ومعرفياً. وإذا كان الدولار عصب النفوذ والقوة، والهيمنة الأميركية على اقتصادات دول العالم، فإنّ التبادلات بين هؤلاء الأقطاب الجدد والدول الصاعدة إذا ما تمّت بعملاتهم الوطنية، فهذا يعني بداية خلخلة الدولار وتنحيته عن زعامة النقد العالمي. وهذا الأمر لن يتمّ بالتأكيد بين ليلة وضحاها، إذ انّ الولايات المتحدة ستستميت للدفاع عن موقع الدولار في العالم، حتى ولو أدّى بها الأمر اللجوء الى استخدام القوة في أماكن معينة، وزعزعة أركان الدول واستقرارها، التي ستتجه باتجاه معاكس لمسيرة الدولار. ولنتصوّر مصير الدولار ومكانته إذا ما عمدت دول الخليج مثلاً، لا سيما المملكة العربية السعودية، الى استبدال الدولار أو الجزء الأكبر من مبيعاتها النفطية ومشتقاتها بعملة الين، او اليوان، او الروبل، او غيره، هل ستظلّ مكتوفة الأيدي، دون الالتفاف عليها، واتخاذ الإجراءات السريعة الرادعة والكفيلة بتعطيل أيّ سياسة مالية تهدّد مستقبل الدولار؟!
ليس من الأمر السهل الحديث عن الإطاحة بالدولار في القريب العاجل، إذ انّ العديد من الدول التي تواجه هيمنة العملة الأميركية على اقتصادات العالم، لا سيما منها القوى الصاعدة البارزة مرتبطة بالدولار بصورة متفاوتة. لذلك فإنّ التفلت من الدولار يحتاج الى وقت، وإلى سياسات مالية واقتصادية مستقبلية دقيقة، مدروسة وواضحة، من قبل الدول التي نتصدّى لهيمنة العملة الأميركية حتى تستطيع إخراج الدول من دائرة نفوذ الولايات المتحدة ودولار عملتها العالمية.
ليست أميركا عام 2023، كما كانت عليه عام 1991 في عهدها الذهبي. فإجمالي الدين الوطني الذي كان يبلغ في ذلك الحين 4 ترليون دولار، وصل اليوم الى 23 ترليون دولار، فيما ناتجها القومي عام 2022 بلغ 23 ترليون دولار. كما انّ أميركا ايضاً ليست في وضع مريح إزاء ما يعترضها من تحديات الأقطاب الجدد، الذين بدأوا خطوتهم في مسار الألف ميل. لكنها خطوة رائدة تريد أن تقول لواشنطن، انّ عصر التفرّد، وزمن القطب الأوحد انتهى، وانّ تنحّيها عن الزعامة العالمية ليس باختيارها حسب زعم بوش وكلينتون، وإنما بالضرورة ورغماً عنها. وما على العالم إلا أن ينتظر الفرصة كي تقرّ الولايات المتحدة بهذا الواقع. وستقرّ حتماً بذلك عاجلاً أم أجلاً، وإنْ استغرق هذا بعض الوقت.
عالم جديد بدأ يسطر تاريخه أقطاب جدد على مساحة العالم، من روسيا مروراً بالصين، والهند، وباكستان، وإيران، والسعودية، والبرازيل، والمكسيك بالإضافة الى قوى صاعدة عالمية أخرى تشقّ طريقها، لتطوي نهائياً هيمنة وتسلط دولة عظمى، لم تعرف شعوب العالم الحرة منها إلا المصائب والويلات، والحروب والدمار…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

شاهد أيضاً

الكابل البحري الجديد: هل ارتمى لبنان في حضن إسرائيل؟!

كتبت سلوى بعلبكي في صحيفة النهار تقول: “لبنان  المكشوف أمنيا وماليا ليس دوما ضحية حروب الآخرين …