لبنان على فوهة بركان

الأستاذ حليم خاتون

عندما قيل لرئيس وزراء بريطانيا تشرشل أن القصف الجوي الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية يدمر لندن بوحشية وان كل شيء ينهار، سأل هل لا يزال التلاميذ والطلاب يذهبون إلى الدراسة، وهل لا يزال القضاة يقومون بتطبيق القانون؟
“نعم، مستر تشرشل”.
“إذا، لا زلنا بخير، وبريطانيا سوف تنتصر.”، أجاب تشرشل…
بعد فشل الحرب الأهلية في إزالة لبنان عن الخارطة، اجتاحت اسرائيل البلد ودخل جيشها إلى بيروت، وجلس أحد جنودها على مكتب الرئاسة في بعبدا سنة ١٩٨٢…
خرجت صورة جندي اسرائيلي على صفحات الجرائد العالمية، وقد مد قدمه على طاولة مكتب الرئاسة…
بعد قتال مستميت في قلعة الشقيف في جنوب لبنان، وقتال أكثر عنفا على محور مثلث خلدة؛ وبعد مقاومة شرسة في مربع جامع ومكتبة جمال عبد الناصر على كورنيش المزرعة، بدأت المقاومة الوطنية اللبنانية عملياتها الفردية قبل أن تنتظم في جبهة المقاومة اللبنانية جمول التي ورثت الحركة الوطنية المنهارة وورثت معها ومنها نفس تخبط هذه الحركة الذي ميز سياسة المجلس المركزي والمقاومة الفلسطينية طيلة فترة الاجتياح…
ما لم يكن في حسبان اسرائيل والغرب الذي أرسل الأساطيل إلى شواطئ بيروت، هو انبعاث الروح في جسد الأمة وخروج مقاومة جديدة تنطلق من عقيدة الشهادة والاستشهاد؛ عقيدة الدم الذي سوف ينتصر على السيف، والعين التي تقاوم المخرز…
لملم الاميركيون والفرنسيون جثث قتلاهم ورحلوا من أبواب مدينة بيروت، كي يعودوا من النوافذ وشقوق جدران هذا الوطن الجريح…
قرر الاميركيون البراغماتيون التراجع خطوة إلى الوراء، وتسليم البلد إلى تسوية سعودية سورية تقوم على المال والعسكر للقضاء على هذه المقاومة…
جاء الطائف، وجاء معه رفيق الحريري يحمل بذور ربط لبنان بمشروع تبين لاحقاً أن له إسما هو الشرق الأوسط الجديد الذي أفصحت عنه كونداليزا رايس أثناء حرب تموز…
في البدء، تم تدجين الحركة الوطنية اللبنانية إلى أن ذابت جمول في وحول الطائف…
جرب النظام الجديد القديم عزل المقاومة الإسلامية وتشويه صورتها للقضاء عليها…
لكن حزب الله كان قد طور نفسه ونظف صفوفه من العشائريين والظلاميين، وعلى رأسهم الأمين العام الأسبق للحزب، الشيخ صبحي الطفيلي…
فشل العزل، كما فشلت الفتنة الشيعية الشيعية في القضاء على حزب الله، فانطلقت البراغماتية الأميركية إلى الخطوة التالية:
استيعاب واحتواء حزب الله عبر إدخاله في النظام الفاسد…
دخلت المقاومة إلى البرلمان بحذر شديد، ولم تدخل الى السلطة التنفيذية إلا بعد انتقال المشروع الأميركي إلى مرتبة أعلى مهد لها الاميركيون باغتيال رفيق الحريري لدفع البلد إلى حرب أهلية جديدة تكون هذه المرة سنية شيعية…
سنة ٢٠٠٦، وبعد فشل تحول الفتنة المذهبية إلى حرب أهلية جديدة، قرر الاميركيون أن الوقت حان لاجتياح جديد…
صدر الأمر لكلب الحراسة اسرائيل بوضع الخطط وانتظار الظرف المناسب…
شاء الله أن يقوم حزب الله بعملية أسر من أجل تحرير الأسرى اللبنانيين والعرب من السجون الاسرائيلية، فكان ذلك هو الظرف المناسب لبدء حرب ال ٢٠٠٦ التي كانت اسرائيل تهيأت لها…
تمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين…
الحرب التي كان من المفروض أن تكون اجتياحا ينهي حزب الله كما أنهى اجتياح ال ٨٢ منظمة التحرير وفرق الحركة الوطنية التي لم ترتق يوما إلى مرتبة أحزاب ذات وزن تاريخي؛ انتهت.
انتهت هذه الحرب على أهم حدث في حياة الكيان الصهيوني…
حرب ٢٠٠٦ أنهت دور اسرائيل ككلب حراسة متقدم للإمبريالية… فشل اسرائيل سنة ٢٠٠٦ كان تاريخاً له ما قبل، وله ما بعد…
عجز اكبر واقوى جيش في الشرق الأوسط من التقدم أكثر من بضعة أمتار في مارون الراس وعيتا الشعب، واندحرت القوات التي حاول إدخالها إلى بنت جبيل…
في وادي الحجير، خسر في يوم واحد عشرات دبابات الميركافا من الجيل الرابع… احدث ما أنتجته الآلة العسكرية الاسرائيلية حتى ذلك اليوم…
لم تلطم اميركا على وجهها كما يفعل العرب، بل انتقلت فورا إلى خطة إسقاط الدولة اللبنانية من الداخل، وكان عميلها فؤاد السنيورة ورجالها من أمثال وليد جنبلاط على كامل الاستعداد…
لأن في حزب الله جهاز عسكري يمتلك رؤية استراتيجية خارقة، جرت عملية نظيفة في السابع من أيار هرب على إثرها ضباط مخابرات أردنيين وسعوديين وغربيين، كانوا يدربون ميليشيات عميلة على طريقة الكونترا في نيكاراغوا…
فشل المشروع الأميركي، فتدخلت تركيا وقطر فورا قبل أن يجري أي عملية تغيير في بنية النظام اللبناني كنتيجة حتمية ليوم السابع من أيار…
جرى استدراج حزب الله إلى الدوحة حيث ضاعت كل المكاسب التي كان من الممكن تحقيقها بفضل ذلك اليوم المجيد…
بدل فرض الشروط، وإرساء الدولة المدنية وفرض انتخابات خارج القيد الطائفي على أساس نسبي وفي لبنان دائرة انتخابية واحدة للانتهاء نهائياً من تأثير الطائفية على تطور المجتمع، جرى تثبيت مبدأ الثلث المعطل، والتوقيع الثالث لوزير مالية شيعي أثبتت الأيام أن انتماءه إلى الشيعة نَسَبي أكثر منه عقائدي، وتم تقسيم الدوائر على قياس الأحزاب الطائفية…
باختصار، خسر حزب الله جزءًا كبير مما كان بالإمكان تحقيقه بعد انتصار ٢٠٠٦، وعملية السابع من أيار…
كُتب للنظام الطائفي عمرا جديدا في لبنان بعدما انضمت الطائفة الشيعية بشكل رسمي إلى ترويكا السلطة المارقة، واستطاع ميشال عون انتزاع بعد المقاعد المسيحية بفضل دماء ضاعت سدى في غير هذا السبيل…
نظرة سريعة إلى هذا النظام تكفي للقول إنه دخل حالة الإفلاس الاقتصادي منذ أواخر التسعينيات، وكان يعيش على الديون وعلى سرقة الودائع بشكل منهجي رسم طريقها بعناية رياض سلامة…
سمح الاميركيون بكل هذا على أمل احتواء حزب الله أو دخوله في شبكة الفساد كما حصل مع السلطة الفلسطينية، وعندما وصلت الأمور إلى طريق مسدود بعد دخول المقاومة إلى سوريا وهزيمة حلف الأطلسي هناك، وكذلك تأثير الحزب في العراق وفي اليمن؛ قررت أميركا هدم الهيكل على رؤوس الجميع بما في ذلك رجالها وعملائها…
بدأ الحصار غير المباشر والعمل على سحب أكبر كمية من الأموال عن طريق الخليجيين واللبنانيين في الخليج، مما وضع المصارف والمصرف المركزي في حالة فقدان السيولة بعد أن بددت الحكومات المتعاقبة معظم المخزون المالي على التغطية على الإفلاس الاقتصادي والمالي للنظام…
نظريا، ظلت السلطة القضائية قادرة على تغطية الفساد الذي كان ينخرها من جميع الجهات إلى أن قررت اميركا إسقاط الدولة في لبنان فأوعزت إلى طارق البيطار بخرق القانون ولو بالشكل، على شكل اجتهاد يجعل منه ملكا غير متوج على ملف المرفأ الذي يجب أن يذهب إلى حدود الصدام المذهبي…
كانت الطوائف الثلاث الكبرى تسيطر كل منها على ناحية من السلطة القضائية وتتناغم فيما بينها على تهدئة اللعب بالنار…
انهيار القضاء بشكل رسمي كما يحدث اليوم على يد طارق البيطار وكيلا عن الغرب، ورد المنظومة عليه على لسان غسان عويدات في محاولة يائسة لمنع سقوط هذه المنظومة، سوف يعني انهيار الدولة سواءً كانت نية البيطار حسنة ام لا…
في النهاية طريق جهنم مرصوفة بالنيات الحسنة…
لا يوجد لأميركا صاحب…
النظام الذي خدم الأميركيين حتى آخر رمق، يتم اليوم القضاء عليه من قبل الأميركيين أنفسهم من أجل تحويل لبنان الى دولة فاشلة…
كل رجالات هذا النظام سوف يذهبون إلى مزابل التاريخ…
لكن المشكلة هي أن هذا الفعل لم يتم على أيدي الناس، بل أيدي عدو الناس والأمة، أميركا…
عصرت اميركا هؤلاء حتى آخر نقطة عفن، واليوم بدأت عملية الاستيلاء على الأموال التي نهبوا…
القضاة الفرنسيون والألمان لم يأتوا لإعادة الأموال المنهوبة إلى لبنان…
هم بدأوا برياض سلامة وسوف يصل السيف إلى رقاب الباقين…
لكن قرشا واحداً لن يعود إلى لبنان كما الذهب الموجود في نورت فورت في أميركا…
الذي بلطج على روسيا، ويبلطج على الصين، لن يتأخر في فعل الأمر نفسه مع عصابة من اللصوص يحكمون لبنان بالعصبية الطائفية ولا يساوون شيئا في ميزات القوة…
هؤلاء الزعماء أقوياء على الناس، وليس على أمريكا…
الذي لا يصدق، عليه فقط معرفة أن قرشا واحدا من أموال صدام حسين ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي لم يعد إلى تلك البلدان…
لقد وضعت المصارف الغربية اليد على كل تلك المسروقات…
هؤلاء لصوص اكبر واقوى من لصوص لبنان…
كل النظام الغربي قائم على سرقة الشعوب، ونحن لسنا استثناء…
ثم إن أميركا اخذت كل شيء تريده بما في ذلك الترسيم…
اميركا لا تحتاج إلى لبنان…
كل همها كان منع مقاومة هذا البلد من عرقلة سيطرتها ومشاريعها…
حين تعجز أمريكا عن مواجهة هذه المقاومة تقوم بتدمير كل البلد، بكل بساطة…
هذا ما يحصل اليوم…
في الوقت الذي يخرج إلى الشارع مجموعة من البسطاء الذين لا يعرفون “وين الله خلقهم”، يهلل بعضهم للبيطار ويبكي آخرون الموقع السني لقاضي التمييز غسان عويدات…
يسير البلد مباشرة نحو نهاية الدولة…
عندما يكون معظم الناس من البسطاء…
عندما لا تملك الأحزاب الشعبية الكبرى أي نظرة استراتيجية، وتكون كل تصرفاتها مجرد ردات فعل آنية…
عندما نفقد الجرأة على مواجهة اميركا
تتحول الدول إلى فاشلة كما هو الوضع في الصومال والعراق…
الغريب أن الطبقة الحاكمة لا تزال تتحدث عن رئاسة الجمهورية في الوقت الذي تختفي فيه كل مقومات هذه الجمهورية…
شعب من الهبل، والنعاج، والخراف…
وأحزاب انتهازية لا تريد أن ترى…
وقضاة يتراوحون بين العمالة والنرجسية..
كل هذا يؤدي إلى موت وطن…

 

شاهد أيضاً

بردونيات

عبدالله_البردوني عجز الكلامُ عن الكلام والنور أطفأه الظلام والأمن أصبح خائفاً والنوم يرفض أن ينام …